الصور بعدسة رويترز
أمسى في الصومال، الغارق في الصراع منذ عام 2009، نظامان يتباريان لبسط سيطرتهما؛ فأما الأول، فهو الحكومة الاتحادية والحكومات الإقليمية والمحلية القائمة، وأما الثاني، فهو حركة الشباب المتطرفة.
تفككت تلك الجماعة الموالية لتنظيم القاعدة بسبب ما تعرَّضت له طوال سنوات من هزائم عسكرية واقتتال داخلي بين قادتها وأمرائها، لكنها لا تزال قوية وصامدة في الصومال، حيث تواصل سعيها لفرض نظامها الصارم من الشريعة. وتجني إيرادات هائلة، تُقدر بنحو 100 مليون دولار أمريكي سنوياً، في حين أن الحكومة الوطنية تجمع 300 مليون دولار.
وهذه الأموال تنفق على شبكة جيدة التسليح تضم ما يتراوح من 5,000 إلى 10,000 مقاتل، وتُمكّنها من تمويل قنوات الإمداد الإقليمية مع الحفاظ على ما تُسميه الباحثة ويندي ويليامز ”وجوداً وهمياً“ لحكومة بديلة في أرجاء البلاد.
وتقول في دراسة أجرتها ونشرها مركز إفريقيا للدراسات الاستراتيجية في عام 2023: ”تبتز حركة الشباب الإيرادات من مختلف جوانب الحياة اليومية في الصومال، من رسوم المركبات على الطرق (الكارتة) إلى ضرائب العقارات، مستغلة سمعتها التي تقوم على وجودها في كل مكان وما تقوم به من ترهيب؛ كما اخترقت عدة مؤسسات حكومية، كأن تحصل مثلاً على بيانات الشحن من موظفي الموانئ، فتتمكن من ابتزاز شركات الشحن عند وصولها.“
والواقع أن «الضرائب» التي تجبيها ليست سوى ضرباً من ضروب الابتزاز.
كتبت السيدة تريشيا بيكون مقالاً نشره برنامج التطرف بجامعة جورج واشنطن، تقول فيه: ”تنفق ضرائبها على بعض الخدمات لمن يعيشون تحت سيطرتها، وبعض الخدمات المتاحة لمن يتقاضون في محاكمها أو يسلكون طرقها. إلا أن مطالب نظام الابتزاز تفوق الخدمات التي تقدمها، وغايتها حماية من يدفعونها من بطشها بهم، فهي تُهدد وتختطف من لا يدفعون ضرائبها بل وتقتلهم. وباتت بارعة في الابتزاز لدرجة أنها تحقق فائضاً سنوياً، ويرى البعض أنها أقرب إلى المافيا منها إلى منظمة ذات فكر في هذه المرحلة.“
استخدمت أموالها لتقويض العديد من الخدمات الحكومية التقليدية، مثل نظامها القضائي. إذ يقول مسؤولون حكوميون إن بعض المواطنين يلجؤون إلى «محاكم» حركة الشباب لتنصفهم لأن قرارات المحاكم الحكومية لا تُنفذ.
وقال السيد عمر محمود، من مجموعة الأزمات الدولية، لإذاعة «صوت أمريكا»: ”أما من يلجؤون إليها رغبةً لا رهبة، فإن العوامل التي تدفعهم إليها هي شهرتها بقلة الفساد، وقلة التمييز بين العشائر، وأنها أقدر من النظام القضائي الحكومي على إنفاذ القانون. والمحاكم نفسها ليست دائماً متطورة، ويعززها تهديد القوات الوحشية، ولكنها في نهاية المطاف أثبتت أنها أكثر فعالية في تلبية احتياجات بعض السكان.“
تستغل الجماعة الإرهابية ثغرات الحكومة الوطنية بعرض شراكات على قادة الميليشيات العشائرية ونصرتهم في ولايتي هيرشبيلي وجلمدج.
في أرجاء القارة
تستكثر جماعات إرهابية أخرى في إفريقيا من استغلال الثغرات التي تعتري الخدمات الحكومية لإنشاء حكومات ظل، تقيم هياكل سلطة بديلة توفر أحياناً خدمات اجتماعية، وتفرض القوانين، وتجبي الضرائب. وهذا ما يحدث في الصومال، وفي أجزاء من بوركينا فاسو وجمهورية الكونغو الديمقراطية ومالي ونيجيريا، وكلها خضعت لسيطرة الإرهابيين والجماعات المتمردة.
ففي مالي، أمست جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، الموالية للقاعدة، من القوى المسيطرة، وتسعى إلى بسط نفوذها في بقاع أخرى من منطقة الساحل. وتفرض تفسيراً متشدداً للشريعة، وتتصرف كقوة أمن وعصابة حماية.
وتتحمل مسؤولية آلاف القتلى في السنوات الأخيرة، وتسطير على الخدمات الأساسية ورأس المال والنقل، وتقول الباحثة تامي بالاسيوس في مقالها لمعهد نيو لاينز في عام 2024 إن هذا ”يسمح لها بالضغط على الجوانب الأساسية للحياة اليومية، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى شعور جميع المدنيين هناك بزوال سبل الرزق شيئاً فشيئاً، وهذا ما يفسر نجاحها في توسيع سيطرتها.“ ونوَّهت إلى أنها عطَّلت حركة المدنيين وحرمتهم من الغذاء والماء والاتصالات الهاتفية والكهرباء وغيرها من الخدمات.
وتقول: ”تُقيم نقاط تفتيش على الطرق داخل المناطق الواقعة تحت سيطرتها؛ فيُوقف مقاتلوها سيارات الركاب والشاحنات التجارية وعربات النقل التي تنقل البضائع والماشية، وحافلات الركاب، وتشيع «الضرائب» التي تفرضها على هذه البضائع، وكذلك السلب والنهب الصريح، وتبيع الماشية التي سرقتها في أماكن أخرى، وتكاد تكون لها مخالب في كل جانب من جوانب المجتمع في المناطق الواقعة في قبضتها.“
وفي نيجيريا وبقاع أخرى من منطقة الساحل، أنشأت جماعة بوكو حرام وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي أشكالاً من حكومات الظل، مع اتباع مناهج مختلفة يتباين نجاحها. فقد سيطرت بوكو حرام في أوجها بين عامي 2014 و2015 على شطر كبير من شمال شرقي نيجيريا، مُعلنةً إياه دولة خلافة. وفرضت في تلك الفترة تفسيرها المتشدد للشريعة، وجمعت الضرائب، ووفرت بعض الخدمات الأساسية في بعض المناطق النائية مقابل دعم الناس لها.
ويقول باحثون إن حكمها كان أكثر وحشية من حكم الجماعات الإرهابية الأخرى، إذ تسرف في نشر الخوف والذعر ولا تتورع عن البطش والعنف. وذكرت مجلة «مودرن دبلوماسي» في تقرير صادر في عام 2025 أن فكر بوكو حرام يقوم على أن ”الإرهاب كثيراً ما يُبرَّر بالخطاب الديني، مع أنها تخطئ في تفسير النصوص الإسلامية الرئيسية.“
وأضاف التقرير: ”عوامل مثل تدني مستوى التعليم وتفشي الفقر والنفوذ السياسي والمعتقدات المضللة تُحفِّز أفعالهم العنيفة، وإن دلت هجماتها على المساجد والكنائس، وما أكثر المصلين الذين قُتلوا فيها، على شيء، فإنما تدل على أن الدين ليس دافعهم بل المصلحة الشخصية.“
تكاد تقوم حكومة الظل التي تقيمها بوكو حرام بالكامل على القمع، ولا تقدم خدمات اجتماعية تُذكر، ودمَّرت مئات العيادات الصحية أثناء فترة حكمها الإرهابي، وسيظل اسمها مرتبطاً إلى الأبد باختطاف 276 فتاة وشابة من منطقة تشيبوك النيجيرية في عام 2014.
ذكر مشروع التهديدات الحرجة أن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي ابتعد عن الأنظار في السنوات الأخيرة، إذ امتنع عن شن هجمات إرهابية، ويقول مجلس العلاقات الخارجية إن فكره ”يمزج بين العقيدة السلفية المتشددة العالمية مع العناصر الإقليمية البارزة، كالإشارة إلى الفتح الإسلامي المبكر لبلاد المغرب الإسلامي وشبه الجزيرة الأيبيرية.“ وأوضح محللون أنه ركز على إقامة تحالفات مع المجتمعات المحلية واستغلال الشبكات الإجرامية. وشملت تكتيكاته توفير الحماية على طول طرق التجارة غير المشروعة، والعمل مع شبكات التهريب، وتقديم حوافز مالية للمجتمعات المحلية.
وفي الكونغو الديمقراطية، أنشأت حركة 23 آذار/مارس المتمردة إدارات محلية، وجبت الضرائب من الشركات والأفراد، ووفرت بعض الخدمات الأساسية، وخلص تقرير صادر في عام 2024 إلى أنها تسعى لتقيم لنفسها سلطة سياسية محلية طويلة الأجل في شرقي الكونغو باستغلال النزاعات التاريخية على الأراضي والتهميش السياسي ومخططات جباية الضرائب غير المشروعة لتوسيع سلطتها وتعزيزها.
فقال الباحثان كين ماثيسن وبير شوتن في مقالهما لمجلة «كونفرسيشن أفريكا»: ”تهدف استراتيجية الحركة الهدامة إلى أن تحل محل السلطات الكونغولية وأن تصلح الحكم المحلي في المناطق التي تسيطر عليها في شرقي الكونغو الديمقراطية، ويرى كثيرٌ من الكونغوليين الذين تحدثنا معهم أنها إنما تريد أن يكون لها الغلبة على المستوى المحلي، وذلك بتقويض السلطات القائمة.“
ومن أبرز جوانب حكومة الظل التي تقيمها الحركة سيطرتها على خيرات البلاد من الموارد الطبيعية واستغلالها، مثل خام الحديد، والماس عالي الجودة، والذهب، والفحم. وتستغل هذه الموارد لجني المال، وتقديم حوافز اقتصادية للحصول على دعم المواطنين لها، وإقامة علاقات دولية من خلال شبكات التجارة غير المشروعة.
التهديد الإقليمي
إن حكومات الظل التي تقيمها الجماعات الإرهابية والمتمردة في إفريقيا لا تهدد دولاً فحسب، بل ومناطق بأكملها. فهذا الحكم يُعرِّض شرعية الدولة للخطر، ويمكن أن يفتح الباب أمام قادة الانقلاب الذين يعدون الشعب بفرض سيطرة الدولة من جديد.
وحكم الجماعات الإرهابية قائم على الابتزاز دون أي فوائد فعلية سوى بعض الحماية، وهذا ما يكثر تسميته بالمافيا. ويتصف هذا الحكم بالعنف، والسيطرة الفكرية الصارمة، واستغلال الموارد المحلية. ولا يمكن أن تدوم حكومات الظل هذه طويلاً، إذ تواجه تحديات من القوات الحكومية والجهات غير الحكومية المناوئة لها.
يقتضي التصدِّي لهذا التهديد اتباع نهج متعدد الجوانب لا يقتصر على الحلول العسكرية، فلا بدَّ من تعزيز مؤسسات الدولة، وحل المظالم الأساسية، وتوفير بدائل اقتصادية ناجحة، لإفساد جاذبية وفعالية حكومات الظل التي تقيمها القوات غير النظامية. فتقول الباحثة ويليامز إن الحكومة في الصومال يجب أن تجفف منابع تمويل حركة الشباب، وذلك بإيلاء الأولوية لإكساب الأجهزة المسؤولة عن الوظائف المالية والاستخبارية والقضائية خصال المهنية والاحترافية. وتُقدم جهود المصالحة في مالي مع متمردي الطوارق نموذجاً يمكن أن يُتبع لمواجهة هذه التحديات بالوسائل السياسية بدلاً من الاكتفاء بالقوة العسكرية.
وبينما تمضي إفريقيا في مواجهة تحديات الحكم والتطرف العنيف، فلا بدَّ لها من الإلمام بحكومات الظل التي تقيمها الجهات غير الحكومية وتعمل على التصدي لها لتعزيز الاستقرار والتنمية. وبينما تسعى الدول لتنسيق تحركاتها العسكرية للتصدي لحركات التمرد المتطرفة، فعليها الإسراع إلى رأب التصدعات وسد الثغرات الجوهرية التي تستغلها الجماعات المتطرفة العنيفة لترسيخ وجودها، كالقضايا الشائكة المتعلقة بحقوق الأراضي وتوزيع الموارد الطبيعية.
يقول الدكتور أنور بوخرص في مقاله في مركز إفريقيا للدراسات الاستراتيجية في عام 2023: ”سواء في بنين أو ساحل العاج أو غانا أو توغو، فإن العلاقات داخل المجتمعات الريفية وفيما بينها تتصف بهشاشتها، وكذلك علاقات المواطنين بالسلطات المحلية وقوات الأمن وجماعات الدفاع عن النفس. فلا بدَّ للدول أن تضاعف جهودها لإدارة النزاعات على مستوى المجتمعات، وتعزيز آليات حل النزاعات، والإشراف على جماعات الدفاع عن النفس.“
إذا أظهرت البلدان الإفريقية أنها قادرة بحق على توفير الخدمات ونشر الأمن وإقامة العدل، فإنها ستسد على الجماعات الإرهابية والمتمردة الطريق لتقويض الحكومات الشرعية.
شبكة تجسس حركة الشباب
أسرة منبر الدفاع الإفريقي
داخل جماعة الشباب الإرهابية جهازٌ سريٌ يُعرف باسم «الأمنيات»، وهو قوة انضباطية وجهاز تجسس يخشاه الجميع.
تضم حركة الشباب ثلاثة أجهزة أمنية مستقلة: الحِسبة، والجَبهة، والأمنيات. يتشدَّد جهاز الحِسبة، بمساعدة شرطته الدينية، في فرض أحكام الشريعة في المناطق الخاضعة لسيطرة الحركة. ويختص جهاز الجبهة بالاتصالات والمتفجرات وخدمات الإمداد والتموين والطب والإعلام، ويقول باحثون إنه مسؤول عن العمليات التي تشمل وحدات عسكرية. أما الأمنيات، فهو وحدة الاستخبارات الفعلية، عبارة عن شبكة من الجواسيس.
قال السيد حسين شيخ علي، المستشار الأمني السابق لرئيس الصومال: ”الأمنيات شريان التنظيم، فهو شديد البأس والقوة، فإذا دُمِّر، انتهت حركة الشباب.“
فالعملاء السريون في كل مكان، ويقول الباحثون إن جهاز الأمنيات يُجنِّد مسؤولين محليين وحكوميين لتسريب المعلومات الاستخبارية لشن هجمات في مقديشو وبقاع أخرى من البلاد.
كتب الباحثان غابور سينكو ويانوس بيسينيو في دراسة نشرتها مجلة «كونيكشنز: ذا كوارترلي جورنال» في عام 2023 يقولان: ”إنه الفرع الأكثر رعباً وتكاملاً وتنظيماً في حركة الشباب ويبدو أن الأمنيات يستخدم الاستخبارات والاستخبارات المضادة لتقديم تحليل نقدي لمواطن ضعف خصومه، ويُجنِّد الجهاز السري أعضاءه من مقاتلي الحركة، غير أن المواطنين أنفسهم أهم مصدر للتجنيد، يتواصل معهم بناءً على توصيات من مخبرين موثوقين يتلقون أجر ما يصنعون، ومعظم عناصره من الشباب المتعلمين ولئن كان عددٌ متزايد من النساء يقدمن ملاجئ آمنة، وينقلن الرسائل، ويوفرن الطعام.“
ويقول الباحثون إن الجناح الاستخباري يضم ما يتراوح من 500 إلى 1,000 عميل، كما يُدير أنشطة سرية ويُخطِّط للهجمات.
يقول الباحث بوبي باين في تقريره أعده لشركة «غراي ديناميكس» للاستخبارات بلندن في عام 2024: ”شأنها شأن العديد من التنظيمات الإرهابية، تُكرِّس حركة الشباب موارد كبيرة لبقائها؛ وهنا تكمن أهمية عمليات الأمنيات، فقد كلفت عملاءه ببث الخوف في نفوس عناصرها بكل الوسائل الممكنة، فهو جهازٌ عليم بكل شيء، مهمته تقليص المعارضة داخل الحركة، ومنع أجهزة الاستخبارات الحكومية من اختراقها، وخاصةً وكالة المخابرات والأمن الوطني الصومالية.“
ويقول باين إن أساليبهم تشمل السجن والاغتيال وإعدام الجواسيس ومن يُعتقد أنهم لا يخلصون كل الإخلاص لقضية الحركة.
وذكر أن جهاز الأمنيات يتولى أيضاً شؤون حركة الشباب المالية.
فيقول: ”يحصلون على معظم التمويل من فرض الضرائب على المشاريع والشركات المحلية، ولا سيما المركبات التي تنقل البضائع من الأراضي التي تسيطر عليها حركة الشباب، وسكان جنوب الصومال، وفيه مساحات كبيرة خاضعة لسيطرتها، يدفعون ثلاث ضرائب: ضريبة حركة الشباب، وضريبة داعش، وضريبة الحكومة الاعتيادية. ولهذا تجبي حركة الشباب ضرائب غير مشروعة بقيمة 15 مليون دولار شهرياً.“