بادرت القيادة العسكرية الأمريكية لقارة إفريقيا برعاية تمرين عسكري جديد في ظل تنامي خطر التطرف العنيف في منطقة الساحل وغرب إفريقيا في عام 2005، وكانت غايته التصدي لهذا التهديد وجهاً لوجه بجمع قوات العمليات الخاصة من شتى بقاع المنطقة وعمل توأمة بينها وبين الحلفاء من أوروبا وأمريكا الشمالية.
شارك في النسخة الأولى من تمرين «فلينتلوك» سبعة بلدان إفريقية وأكثر من 700 جندي، ويهتم من يومئذ بوحدات العمليات الخاصة وتدريب عناصر العمليات الخاصة، وهم من صفوة رجال القوات المسلحة في أوطانهم، وأول من يُرسل لتنفيذ مهام دقيقة مثل إنقاذ الرهائن أو القضاء على أهداف إرهابية مؤثرة.
ما أكثر السمات المشتركة بين وحدات العمليات الخاصة في إفريقيا، لكنها نادراً ما كانت تتدرب معاً قبل تمرين «فلينتلوك»، وأدت حواجز اللغة والعقيدة العسكرية والعتاد والسياسات الوطنية إلى انعزالها، فلا ينسق الجنود عملياتهم، ونادراً ما كان قادتهم يتبادلون المعلومات الاستخبارية أو الممارسات المُثلى. وكثيراً ما استغلت الجماعات المتطرفة هذه الانقسامات، وبحثت عن المناطق الضعيفة التي يندر فيها وجود الدولة لإنشاء قواعد وتجنيد عناصر جديدة والعمل عبر الحدود دون حسيب أو رقيب.
وما أبسط الهدف الذي كان ينشده تمرين «فلينتلوك»؛ إذ كان يصبو إلى مساعدة الدول المشاركة على مكافحة التنظيمات المتطرفة العنيفة، والتعاون عبر الحدود، وتوفير الأمن لشعوبها، مع احترام حقوق الإنسان ومد جسور الثقة مع السكان المدنيين.
وجدير بنا في العام الـ 20 لتمرين «فلينتلوك» أن نقيِّم ما أحرزه طوال تلك السنين لنستبين سبل المضي قدماً.
النمو واستغلال الفرصة لسد الثغرات
يُعد تمرين «فلينتلوك»، في شكله الحالي، أكبر انتشار لشركاء العمليات الخاصة في إفريقيا، وربما في العالم أجمع؛ إذ يُنشر سنوياً أكثر من 1,300 فرد يمثلون 30 شريكاً إفريقياً ودولياً لتعزيز التعاون ورفع مستوى التوافق العملياتي، وإقامة شراكات دائمة تؤتي ثمارها بإنقاذ الأرواح. وكبر حجم التمرين وتوسَّع نطاق العمليات على مدار 20 عاماً، مع تحديد الكثير من الثغرات الحرجة في التدريب، والتباين في قدرات قوات العمليات الخاصة، وفرص تحسين التعاون ورفع مستوى التوافق العملياتي بين الشركاء الأفارقة والدوليين.
ولعلَّ التحدي الأبرز والأشد حساسيةً للوقت فيما يتعلق بقوات العمليات الخاصة هو أيضاً استغلال الفرصة الأنفع أثراً، ويتمثل ذلك في توحيد المفاهيم والعقيدة العسكرية، ولا بدَّ من وضع هذه العقيدة على أيدي قوات العمليات الخاصة الإفريقية ومعها ومن خلالها حتى تؤتي ثمارها وتصبح مقبولة عالمياً. وبما أن تمرين «فلينتلوك» يمثل الوسيلة الرئيسية للتعاون على مكافحة الإرهاب في غرب إفريقيا وشمالها، فهو الأقدر على دعم الجهود الرامية لوضع عقيدة عسكرية لقوات العمليات الخاصة الإفريقية.
وبما أنني من المشاركين في التمرين والمخططين لفعاليات التدريب فيه، أود أن أعرب عن اتفاقي مع الداعين إلى وضع المفاهيم والعقيدة العسكرية لقوات العمليات الخاصة في إفريقيا. وهذا خير توقيت، إذ تسعى الجماعات الإرهابية للتوسع، وتتفكك التحالفات الإقليمية في منطقة الساحل أو تتعرض للتهديد، ولهذا أعتقد أن تعاون قوات العمليات الخاصة اليوم بات أهم من ذي قبل وأنفع.
أصغرها ربما أفضلها
في تمرين «فلينتلوك»، يتمحور المفهوم والعقيدة العسكرية لقوات العمليات الخاصة على العمل الرائد الذي قام به الفريق أول متقاعد ويليام مكريفن، أحد رجال البحرية الأمريكية، صاحب نظرية «التفوق النسبي». فقد استخلص في كتابه «العمليات الخاصة» دروساً من صراعات من زمن الحرب العالمية الثانية لتوضيح الأفكار الأساسية لقوات العمليات الخاصة. ففي الحرب التقليدية، تكون القوة التي تدافع عن موقع ما أقوى بطبيعتها من القوة التي تهاجمه، ولهذا يجب أن تكون القوة الهجومية أكبر من القوة الدفاعية بثلاثة أضعاف. ولكن لا تصلح هذه الحكمة التقليدية في قوات العمليات الخاصة، إذ يمكن أن تتمتع الوحدات الصغيرة بقدرات غير تقليدية واستثنائية. وقد درس مكريفن عملياتٍ مثل المداهمة التي نفذها المغاوير البريطانيون في سان نازير بفرنسا في عام 1942، والرهائن الذين أنقذتهم إسرائيل في مطار عنتيبي بأوغندا في عام 1976، ويرينا بهذه الدراسة قوة هذه الوحدات الصغيرة النخبوية. ويقول إن قوات العمليات الخاصة يكون لها اليد الطولى حينما تمتلك ”خطة بسيطة، تحافظ على سريتها، وتتدرب عليها بواقعية، وتنفذها بَغتة وبسرعة لتحقيق غاية محددة.“ وإن دلَّ هذا المفهوم على شيء، فإنما يدل على أن قوات العمليات الخاصة ينبغي أن تضم عناصر تنفيذ أو وحدات مهام أصغر من سائر الوحدات التقليدية.
تباين المفاهيم والعقيدة العسكرية لقوات العمليات الخاصة في إفريقيا
كثيراً ما تتضمن الجيوش الإفريقية تشكيلات قديمة من قبل العصر الحديث أو من الحقبة الاستعمارية، ووحدات النخبة العسكرية في غرب إفريقيا وشمالها عبارة عن قوات المغاوير والصاعقة والغواصين والوحدات شبه العسكرية، والبون شاسع بين هذه الوحدات وبين الوحدات التي تؤمن بعقيدة عسكرية مختصة بتنفيذ مهام القوات الخاصة. فربما تجد وحدة النخبة في دولة ما تنفذ عمليات مكافحة التمرد أو مكافحة قطاع الطرق، وربما تُكلَّف في دولة أخرى بحماية البنية التحتية الوطنية الحيوية أو الموارد الطبيعية.
وكثيراً ما يكشف تمرين «فلينتلوك» ما تفعله بعض البلدان الإفريقية من الخلط بين مفاهيم القوات التقليدية وقوات النخبة وبين مفاهيم قوات العمليات الخاصة. ويختلف حجم وحدات المهام باختلاف البلدان الإفريقية، فبعضها بحجم الوحدات التقليدية، فيصعب تحقيق عناصر السرعة والسرية والمباغتة اللازمة لمهام العمليات الخاصة. والبلدان التي تكون وحدات العمليات الخاصة فيها صغيرة تواجه تحديات في التوافق العملياتي والتكتيكات حينما تعمل مع بلدان تكون وحداتها بحجم الوحدات التقليدية. وربما تستخدم بعض البلدان في تمرين «فلينتلوك» وحدات أكبر نظراً للتحديات الفريدة التي تواجهها في العمليات في سياقها الوطني والتضاريس في بلادها. ويمكن التغلب على هذه التحديات بمراجعة السياق العملياتي لقوات العمليات الخاصة الإفريقية استرشاداً بالمفاهيم والعقيدة العسكرية الراسخة لتوحيد حجم وحدات المهام.
الانتفاع بقوة رجال العمليات الخاصة
يمكن الانتفاع بقوات العمليات الخاصة وتحويلها إلى أداة من أدوات القوة الوطنية، وتُعرف اصطلاحاً بقوة رجال القوات الخاصة، وتُجسد هذه القوة قدرة قوة عسكرية صغيرة على تحقيق أداء يفوق قدراتها في بيئات حساسة سياسياً وعسكرياً، ولكن بتقليل التكلفة على الدولة. وقد رأينا أمثلة على ذلك في أماكن مثل مالي، حيث استعادت قوات العمليات الخاصة التشادية مناطق من المتطرفين، وفي نيجيريا، حيث أنقذت وحدات العمليات الخاصة رهائن أسرتهم جماعة بوكو حرام، وحتى في خليج غينيا، حيث نجحت وحدات مغاوير صغيرة في تحرير بحارة من براثن القراصنة وساعدت على تأمين المياه للتجارة.
ولا ريب أن مستوى التنمية وسياق البلدان الإفريقية يؤثران على الانتفاع بقوة رجال العمليات الخاصة في الاستراتيجية الوطنية. فالقوة الاقتصادية للدولة تؤثر على الأصول والمعدات العسكرية المتاحة لقوات العمليات الخاصة، والتقدم التكنولوجي ونمو الصناعات العسكرية يؤثران على تطوير المعدات والأسلحة المتخصصة وصيانتها. فلا بدَّ للمفاهيم والعقيدة العسكرية لقوات العمليات الخاصة والاستعانة بها أن تراعي أن البلدان الإفريقية لا تمتلك ما تمتلكه الكثير من البلدان الغربية من موارد، وأن قوات العمليات الخاصة في إفريقيا لن تعتمد مثلها على التكنولوجيا وأصول الإسناد. ولكن، وفي ظل وجود ثغرات في القدرات التقنية، فإن خبرة الجنود الأفارقة وقدرتهم على التحرك في مناخات وتضاريس وتهديدات بالغة الصعوبة تميزهم على الجنود الذين يُفرطون في التعويل على التكنولوجيا. وكما تردد كثيراً على لسان أحد رجال العمليات الخاصة المخضرمين: ”العدد أهم من العتاد.“ فينبغي للعقيدة العسكرية لقوات العمليات الخاصة الإفريقية أن تراعي هذه الحقيقة.
توسيع الأهداف
كان تمرين «فلينتلوك» شديد النفع في رفع الوعي بأهمية قوات العمليات الخاصة في عمليات مكافحة الإرهاب وفي السياق الأوسع للاستجابة للأزمات، وكان له فوائد جمة على الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدول من خلال الفعاليات التي عُقدت لكبار القادة، والتكامل بين أجهزة الدولة، وبرامج العمل المدني العسكري المحلية، والمساعدات الإنسانية، ومشاريع التنمية، والرسائل العامة، والعمليات الإعلامية. وتتضمن كل نسخة منه فعاليات مثل الحملات الطبية أو البيطرية التي تصل لآلاف المواطنين. وقد تطور كل ذلك على مر السنين، مثلما تطور الوعي بأن مشكلة التطرف العنيف لا تُحل بالعمل العسكري وحده، بل يجب حلها بنهج شامل للتخلص من الأسباب الجذرية لهذا البلاء واستمالة أقرب الناس إلى العنف.
وقد وسَّع التمرين أهدافه بدحر شبكات التنظيمات الإرهابية والمتطرفة العنيفة، وبمساعدة قوات العمليات الخاصة على كسب ثقة المواطنين بالتزامهم الواضح بسيادة القانون والأطر القانونية المعمول بها التي تدعم السلطات المدنية. فيشعر المواطنون بالاطمئنان حين يرونهم، ويشعرون بأنهم رجال محترفون يمكن الوثوق بهم. وفي بلدان كثيرة إرثٌ معقدٌ لا بدَّ من التخلص منه، والغاية من ذلك أن يفهم المدنيون أنه يمكنهم في حالات الطوارئ أن يفزعوا إلى قواتهم المسلحة لا أن يفروا منها.
وضع استراتيجية
يجب أن يكون منهج وضع المفاهيم والعقيدة العسكرية لقوات العمليات الخاصة في إفريقيا شاملاً، وهذا ليس بالعمل الهيِّن، فوضع لغة مشتركة للمفاهيم والعقيدة العسكرية لقوات العمليات الخاصة في إفريقيا لن يخلو من التحديات، لكنها لا تُقارن بالتحديات الواقعية التي يواجهها غرب إفريقيا وشمالها جرَّاء التطرف العنيف. ففي عام 2024، سقط في منطقة الساحل 10,400 قتيل جرَّاء العنف على أيدي المتشددين الإسلاميين، فكانت أشد من تجرَّع مرارة الإرهاب في العالم. فلا مجال لإهدار الوقت في مواجهة هذا التهديد.
فلا بدَّ من وضع إطار عمل مشترك لقوات العمليات الخاصة في إفريقيا لمواجهة التهديدات الحالية، إذ أثبتت لنا عقودٌ من الخبرة أن العناصر الهدامة لا تراعي حُرمة الحدود الجغرافية ولا تلتزم بها. وكما قال اللواء بحري رونالد فوي، قائد قيادة العمليات الخاصة الأمريكية بإفريقيا: ”لا تستطيع أي دولة أن تتصدى لهذه التحديات وتحلها بمفردها.“ وهذه الجملة لا تثبت أهمية توحيد المفاهيم والعقيدة العسكرية لقوات العمليات الخاصة في إفريقيا فحسب، بل وتوجب علينا مواجهة تهديدات اليوم والتأهب لتحديات الغد.
طرأت تغيرات هائلة على الأهداف وطريقة التنفيذ في تمرين «فلينتلوك» على مدار الـ 20 عاماً الماضية؛ فقد كان في أول أمره عبارة عن نموذج مشترك للتدريب متعدد الأطراف، تتولى فيه القوات الدولية دور المدربين، وقوات العمليات الخاصة الإفريقية دور المتدربين، وها هو يتحول إلى تدريب تعاوني متبادل المنفعة. ويجدر بجميع الأطراف ألا يفوتها الإلمام بهيكل وحدات قوات العمليات الخاصة بجمع المعلومات عن العمليات الداخلية، ولا بدَّ من الاستكثار من النقاش مع قيادة قوات العمليات الخاصة الإفريقية لإحراز تقدم نحو مكافحة تهديد مشترك. ومن المنهجيات المفيدة اتباع نهج المنظومة الذي يتطلب تكثيف التعاون مع قوات العمليات الخاصة وسائر المؤسسات دون الإقليمية والشركاء الغربيين، وعند تطبيق هذا النهج على النحو الصحيح، فإنه يجعل التدريب ركناً من أركان المنظومة كلها لا مجرد نشاط سنوي مستقل.
الطريق إلى الأمام
إن توحيد المفاهيم والعقيدة العسكرية لقوات العمليات الخاصة في إفريقيا، التي وضعتها بنفسها، يقدم فرصاً عظيمة لتعزيز جهود مكافحة الإرهاب والحفاظ عليها. ومع أن رعاية تمرين «فلينتلوك» تُتيح فرصةً لاستخدام العقيدة العسكرية لقوات العمليات الخاصة التابعة لحلف شمال الأطلسي (الناتو) لبناء توافق عملياتي حقيقي، فإن المفاهيم والعقيدة المستخدمة يجب وضعها وتقنينها على أيدي قوات العمليات الخاصة الإفريقية ومعها ومن خلالها. وقد يبدو هذا النهج لوضع مفاهيم وعقيدة متمحورة حول إفريقيا لقوات العمليات الخاصة عملاً شاقاً ومملاً، لكنه يقدم حلاً ناجعاً لمواجهة التهديدات المعقدة التي لا تسلم منها المنطقة. فهذه التهديدات عبارة عن مجموعةً شاملةً من المشكلات، وتتطلب حلاً شاملاً، وربما تتمثل الخطوة الأولى لحل هذه المشكلة في وضع وصياغة واستخدام المفاهيم والعقيدة العسكرية، بقيادة قوات العمليات الخاصة في إفريقيا، وأن تعمل قوات العمليات الخاصة في إفريقيا على ترسيخها ونشرها. فهذا هو التحدي الذي يواجه مجتمع قوات العمليات الخاصة وتمرين «فلينتلوك»، لاستغلال النجاح المحقق طوال 20 عاماً، لتوفير الأدوات وعلاقات العمل والبنية التحتية اللازمة. ο
نبذة عن الكاتب: يشغل المقدم بحري دزكباسو منصب قائد سرب الزوارق الخاص بالبحرية الغانية، وشغل قبل ذلك منصب مسؤول العمليات في القيادة النهرية، وقائداً في مقر البحرية الغانية في معسكر بورما، وقائداً لسفينتي «بليكا» و«غارينغا» التابعتين للبحرية الغانية. وهو حاصل على درجتي ماجستير في الشؤون البحرية من الجامعة البحرية العالمية في السويد، وفي الدفاع والسياسة الدولية من كلية القادة والأركان للقوات المسلحة الغانية.