كان من المحتم أو يكاد أن ينشئ المستوطنون الفينيقيون مركزاً تجارياً منذ 2,200 سنة أو يزيد في مدينة تونس الساحلية حالياً.
وسموها قرطاج، أي «المدينة الجديدة»، وتقع في الجزء الأوسط من البحر المتوسط، وصارت عظيمة النفع لطرق التجارة بفضل وصولها إلى الموانئ الواقعة على طول السواحل الأوروبية والإفريقية، وظلت بسبب ذلك مئات السنين في تنافس مرير مع روما.
تمعن الفينيقيون، أهل لبنان حالياً، في اختيار مستعمراتهم البحرية، فكانوا يهتمون بجودة موانئها وسبل حمايتها من الهجمات، واكتشفوا أن قرطاج موقعٌ مثاليٌ لهم، إذ كانت تقع على شبه جزيرة مثلثة الشكل، تكسوها الروابي.
وتعلم الفينيقيون كيف يستغلون مهاراتهم التي يشتهرون بها في التجارة وركوب البحر خير استغلال في موقعهم في شمال إفريقيا، فنمت تلك المدينة التي صارت دولة حتى أمست إمبراطورية مترامية الأطراف في البحر المتوسط، هيمنت على تجارة النسيج والمعادن النفيسة.
إلا أن سلطان الفينيقيين لم يدم عليها طويلاً، إذ بدأت قرطاج بحلول القرن السابع قبل الميلاد في تأكيد استقلالها، بينما كانت فينيقيا لا تسلم من خطر البابليين الذين لم يكفوا عن حصارها، وعظمت ثروة قرطاج واشتدت قوتها، وكان قوامها التجارة البحرية والزراعة والموارد المعدنية.
ووسعت نفوذها بحلول القرن الرابع قبل الميلاد في غرب المتوسط، وأصبحت القوة المهيمنة في المنطقة، وشملت الإمبراطورية القرطاجية المناطق الساحلية من شمال إفريقيا من المغرب إلى غرب ليبيا، وسردينيا وجزر البليار، والنصف الغربي من صقلية، وأجزاء من شبه الجزيرة الأيبيرية.
قامت الإمبراطورية القرطاجية، أو الإمبراطورية البونيقية، بفضل نفوذها المالي والسياسي، لا بفضل قوتها العسكرية. ووضع القضاة البونيون أيديهم على بعض الأراضي، وسيطرت قرطاج على مناطق أخرى بالمعاهدات أو التحالفات أو علاقات التبعية، وكلما توسعت، تأثرت ثقافتها بالحضارات المحيطة بها، كالفينيقية، والإفريقية، واليونانية، ثم الرومانية.
وكان الحرفيون فيها من أفضل الحرفيين في العالم، وكانت الأسِرّة والوسائد والمراتب البونيقية من متاع الحياة في أوروبا، وقلَّد الحرفيون الأثاث البونيقي في أرجاء أوروبا.
وبلغ عدد سكانها في أوج ازدهارها ما يقرب من 500,000 نسمة، وكان من بنيتها التحتية الضخمة ميناءٌ ترسو به 220 سفينة.
إلا أن قوة قرطاج وتوسعها أفضى إلى نشوب صراع بينها وبين الجمهورية الرومانية الناشئة، وأسفر هذا التناحر عن اندلاع الحروب البونيقية، وهي سلسلة من ثلاثة صراعات دموية حددت معالم ذلك العصر وكتبت مصير غرب المتوسط.
خاضت قرطاج الحرب البونيقية الأولى، من عام 264 إلى عام 241 قبل الميلاد، للسيطرة على صقلية، وانتصرت فيها روما بفضل قوتها البحرية الناشئة. واشتهرت الحرب البونيقية الثانية، من عام 218 إلى عام 201 قبل الميلاد، بما قام به هانيبال من عبور جبال الألب وانتصاراته الساحقة الأولى على روما، لكنه خسر في النهاية حرب استنزاف، وتنازلت قرطاج عن أراضيها الخارجية لروما.
وشهدت الحرب البونيقية الثالثة تدمير الإمبراطورية القرطاجية، إذ قاد شيبيون الإفريقي جيوش روما في حملة استمرت ثلاث سنوات، انتهت في عام 146 قبل الميلاد بانتصار روما وتدمير قرطاج، ولم تكد تقوم لها قائمة بعدها.
ولكن لم يندثر إرث المدينة، فقد أسس يوليوس قيصر مستعمرة رومانية على أنقاضها في عام 44 قبل الميلاد، وصارت واحدة من أهم مدن الإمبراطورية الرومانية.
يُمثل التناحر بين قرطاج وروما فصلاً رئيسياً من تاريخ إفريقيا وأوروبا، ورسم معالم المشهد السياسي للعالم مئات السنين. ولا تزال كُتب التاريخ تذكر الإمبراطورية بالحروب البونيقية الثلاث، لكنها كانت تشتهر بتجارتها البحرية وزراعتها واستكشافاتها، فكان لها فضلٌ في وصول المنطقة إلى ما هي عليه اليوم.
