تعاني عدة بلدان من مشكلة تُعرف شعبياً بمصطلح «العمى البحري»، يصف عدم الاكتراث العام بقضايا الأمن البحري، والعجز عن رصد ما يحدث على الماء.
فما حجم النشاط الذي يجري في هذه المساحات غير المرئية؟ فقد توصل باحثون في تقرير نُشر في مجلة «نيتشر» إلى أن نحو %76 من سفن الصيد الصناعي كانت «متخفية» في وقت ما، أي إنها لم تكن ترسل مواقعها أو أن أنظمة المراقبة العامة عجزت عن تقفي أثرها. وخلص التقرير إلى أن مواقع ما يقرب من %30 من حركة سفن الطاقة والنقل لم تكن معروفة.
وتداعيات ذلك وخيمة، إذ يعتقد المحللون أن السفن الضالعة في أعمال غير مشروعة كالاتجار والقرصنة والإرهاب لا تُكتشف أيضاً.
يقول السيد ويكيسا لوكاس، وهو باحث كيني في علوم البيانات: ”لا تزال البيئة البحرية مسرحاً صامتاً للأنشطة شديدة الخطر؛ فالتهديدات البحرية، كالصيد غير القانوني أو التهريب أو المراقبة الأجنبية، تتصف بأنها أهدأ وأسرع وأخفى من التهديدات البرية، لكنها لا تقل عنها في خطورتها.“
تسلك %90 من التجارة الإفريقية الطرق البحرية، ولكن يقول القادة إن المخاوف الأمنية لا تزال منصرفة إلى البر، ففي مقال افتتاحي في صحيفة «إيست أفريكان»، حثَّ عبد السيد علي، رئيس منتدى لومي للسلام والأمن، البلدان على تغيير هذا النهج باستثمار الوقت والموارد في الأمن البحري. ويقول إننا ما عدنا نتساءل ونقول: ”هل للبحار أهمية؟““ بل نقول: “”هل نسيطر على بعض من أكثر الممرات التي تتصف بأهميتها الاستراتيجية“ في العالم؟

لاغوس بنيجيريا. البحرية الأمريكية
ويقول: ”لزاماً على إفريقيا أن تُعجل بالاستثمار في مراقبة السواحل، ومراكز دمج الاستخبارات البحرية، وقدرات القيادة البحرية؛ فالأمن البحري لا يقتصر على حماية المياه، بل ويشمل السيطرة على تدفق السلع والبيانات والطاقة والنفوذ، فالسيطرة في هذا المجال ذات طابع استراتيجي.“
تبدأ القدرة على ضبط الأمن البحري بالوعي بالمجال البحري، وقد صار في متناول جميع البلدان ويمكنها تحقيقه بفضل الثورة التكنولوجية في الآونة الأخيرة، وبفضل إنشاء أطر لتبادل البيانات عبر الحدود.
تحسين المراقبة
من أهم أدوات تتبع السفن مجانية ومتاحة للجميع، إذ يُشترط على السفن التي تزيد حمولتها عن أطنان معينة تشغيل نظام التعريف الآلي الذي يرسل موقعها عدة مرات في الدقيقة، ويمكن الاطلاع على البيانات الواردة من أجهزة الإرسال والاستقبال هذه عن طريق أدوات إلكترونية لتقفي أثر السفينة، كما يُشترط على سفن الصيد التجارية تركيب أنظمة مراقبة السفن، التي ترسل موقع السفينة إلى قمر صناعي، فيرسله إلى محطة مراقبة برية.
غير أن هذه المصادر التي تجمع البيانات ليست مضمونة، فمن الشائع أن تطفئ السفن هذه الأنظمة حتى لا تتمكن السلطات والأعداء من اكتشافها، فقد توصل تقرير نُشر في مجلة «ساينس» في عام 2022 إلى أن %6 من إجمالي أعمال الصيد في العالم، أي ما يُعادل ملايين الساعات سنوياً، تحدث حينما تكون السفن «متخفية» أي حين تطفئ ما بها من أنظمة مراقبة. واكتشف الباحثون علاقة بين السفن المتخفية وجرائم مثل الشحن العابر (أي نقل الأسماك من سفينة لأخرى في عرض البحر)، والصيد بدون تصريح، أو الصيد بمعدات غير قانونية. وقد ترسل بعض السفن التي تعمل بطرق غير قانونية مواقع زائفة أو مُضللة لإرباك النظام.
تقول الدكتورة هيذر ويلش، الباحثة في جامعة كاليفورنيا – سانتا كروز، في مقالها لموقع «كونفرسيشن»: ”مثلما يستطيع اللصوص أن يطفئوا خاصية تتبع الموقع في هواتفهم، تستطيع السفن إطفاء أجهزة الإرسال والاستقبال بنظام التعريف الآلي، فتتوارى عن الأنظار.“
تتجه البلدان إلى الرادار والأقمار الصناعية لسد هذه الثغرات في المعلومات، ومن الابتكارات الجديدة رادار الفتحة التركيبية (سار)، وهو نظامٌ قائمٌ على الأقمار الصناعية يرسل النبضات الرادارية إلى الأرض، ويجمع أصداءها، ثم يفسر هذه البيانات لرسم صورة لها.

ومن الأدوات المتطورة الأخرى مجموعة مقياس الإشعاع المرئي للتصوير بالأشعة تحت الحمراء (فيرز)، وهو جهاز استشعار قائم على الأقمار الصناعية يكتشف الضوء المنبعث من السفن لتقفي أثرها.
والبيانات التي يجمعها كلا النظامين متاحة للجميع، ويمكن للسلطات استخدامها لتتبع السفن المتخفية. وكلما زادت البيانات المُجمعة، زادت قدرة السلطات على رصد الاتجاهات وتحديد البؤر التي يمكن أن تُرتكب فيها الجرائم.
قالت الدكتورة إفسيناتشي أوكافور ياروود، من كلية الجغرافيا والتنمية المستدامة بجامعة سانت أندروز، لمنبر الدفاع الإفريقي: ”إن دمج هذه المصادر يجعل القوات البحرية وأجهزة إنفاذ القانون المعنية قادرة على رسم صورة أكثر شمولاً وديناميكية للأنشطة البحرية؛ فالرادار يكتشف ما يحدث بالقرب من الشواطئ لحظة حدوثه، بينما توفر الأقمار الصناعية تغطية واسعة النطاق، ويمكنها تحديد السفن التي لا ترسل إشارة من نظام التعريف الآلي.“
ومن الأنظمة المستخدمة للتوفيق بين هذه المعلومات هو نظام «سي فيجَن»، وهو أداة إلكترونية للوعي بالمجال البحري، تجمع بيانات أنظمة التعريف الآلي وأنظمة مراقبة السفن ورادار سار ونظام فيرز. وقد أنشأته الولايات المتحدة في عام 2012، ويُستخدم الآن مجاناً في أكثر من 100 دولة. فيتيح لمستخدميه الاطلاع على كمٍ هائل من بيانات الوعي بالمجال البحري الآنية، بتكلفة منخفضة وأدوات قليلة واتصال بالإنترنت.
يقول الدكتور ديفيد بروستر، الباحث الأول في كلية الأمن القومي بالجامعة الوطنية الأسترالية، في مقاله بموقع «ذا ستراتيجيست»: ”تحدث ثورة تكنولوجية متعددة الجوانب، تجعل الوعي بالمجال البحري في متناول كافة البلدان حتى أصغرها، فتضع بين يديها الأدوات اللازمة لفهم مجالاتها البحرية وإدارتها بتكلفة ميسورة.“
تكنولوجيا جديدة تقدم حلولاً
تجمع أدوات الوعي بالمجال البحري كميات هائلة من البيانات لا تقوى الكوادر البشرية على تحليلها، ولهذا يستعين رجال الأمن بالذكاء الاصطناعي لاكتشاف الإبرة في كومة القش، كما يقول المثل الشعبي، وسط تلك البيانات وتحديد أولويات الاستجابة. فأنظمة الذكاء الاصطناعي قادرة على تعزيز الوعي بالمجال البحري بتحليل الأنماط لتحديد سلوك السفن المُريب الذي ربما ينبئ بجرائم معينة، كما يمكنها تحديد الثغرات التي يجب سدها في البيانات، والمساعدة في جمع المعلومات من مصادر شتى.
يقول الدكتور أوسي بونسو ديكسون، الباحث الأول في معهد خليج غينيا البحري: ”يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُحدث ثورة في مفهوم الوعي بالمجال البحري، وذلك بفضل قدرته على تحليل كميات ضخمة من البيانات لتحديد الأنماط المتعلقة بالأنشطة غير القانونية. ويمكن لخوارزميات التعلم الآلي، على سبيل المثال، التنبؤ بالمسارات التي يسلكها المهربون أو مراقبة أنشطة الصيد لاكتشاف ما يحدث من انتهاكات للقوانين البحرية.“
يُسرق 400,000 برميل نفط يومياً في منطقة دلتا النيجر بنيجيريا، وتستخدم السلطات التحليلات التنبؤية القائمة على الذكاء الاصطناعي لاكتشاف سرقة النفط بدقة والأماكن المحتملة لحدوثها، ويُزامن التعلم الآلي البيانات المجمَّعة لاكتشاف سرقة النفط سريعاً.
يقول السيد أفولابي رضوان بيلو وزملاؤه في مقال لهم في مجلة «آي آر إي جورنالز»: ”الذكاء الاصطناعي قادرٌ على تحليل بيانات تدفق خطوط الأنابيب وتحديد الاختلالات التي توحي بالسرقة. فعلى النقيض من أجهزة استشعار الضغط التقليدية، تستطيع خوارزميات الذكاء الاصطناعي الكشف حتى عن التسريبات الضئيلة أو محاولات الشفط البطيئة.“
ومن الابتكارات الأخرى التي لا تزال في باكورتها استخدام شبكات الاستشعار المستقلة، إذ تتكون هذه الأنظمة من أجهزة استشعار متصلة، وتقوم على مجموعة من المنصات، تشمل العوامات والمحطات الأرضية والطائرات والزوارق والغواصات المسيَّرة. ويمكن أن تكون هذه الشبكات عظيمة النفع في تنبيه السلطات إلى نشاط الغواصات المسيَّرة.
تحطيم الحواجز لتبادل المعلومات
تعمل البلدان الإفريقية على التغلب على حواجز انعدام الثقة التاريخية بينها لتحقيق أقصى استفادة من البيانات التي تجمعها. فهذه الحواجز قائمة بين البلدان، وبين الشركات الخاصة والسلطات الوطنية، وتضطر البلدان بسبب انعدام الثقة إلى الإحجام عن تبادل المعلومات الحيوية عن السفن التي تعبر حدودها.
كتب المحلل تيموثي ووكر، من معهد الدراسات الأمنية في بريتوريا، يقول: ”إن السعي وراء الوعي بالمجال البحري وتشغيل [مراكز تبادل المعلومات] معرَّضٌ للخطر ما دامت «ثقافة السرية» سائدة. فكثيراً ما تحجم البلدان ومؤسسات الملاحة وشركات الشحن عن إتاحة المعلومات بحرية وعلنية، إذ يخشى الكثير أن يؤدي ذلك إلى التعارض مع مبدأ حرية الملاحة والإخلال به.“
ومن التطورات المبشرة بالخير إنشاء مراكز تنسيق للإنقاذ البحري، تتبادل البيانات للمساعدة في عمليات البحث والإنقاذ، ويوجد منها الآن خمسة مراكز إقليمية و26 مركزاً فرعياً تغطي كامل سواحل القارة.

وتبلورت مبادرات أخرى لتبادل البيانات بمساعدة المجموعات الاقتصادية الإقليمية. ففي غرب إفريقيا، أنشأت الدول الموقعة على مدونة ياوندي لقواعد السلوك «نظام المعلومات الإقليمي لمنظومة ياوندي». وهذا النظام يربط 27 مركزاً بحرياً لتبادل البيانات عن الأحداث في نطاق 6,000 كيلومتر من سواحل غرب إفريقيا، وقد بدأ العمل به منذ عام 2020، وأسفر عن عمليات اعتراض بارزة لسفن مختطفة، سمحت بتشكيل استجابة منسقة بين عدة بلدان.
كما يُشيد قادة القوات البحرية بالتمارين البحرية السنوية، مثل تمرين «أوبنغامي إكسبريس» في غرب إفريقيا وتمرين «كوتلاس إكسبريس» في المحيط الهندي، لما تقوم به من مد جسور الثقة وتعزيز تبادل المعلومات. ففي تمرين «أوبنغامي إكسبريس»، تُرسل المعلومات من مراكز العمليات البحرية الوطنية، مروراً بالمراكز متعددة الجنسيات، والمراكز الإقليمية، وصولاً إلى مركز التنسيق الأقاليمي في ياوندي بالكاميرون.
قال العقيد بحري إيمانويل بيل بيل، رئيس قسم إدارة المعلومات والاتصالات في مركز التنسيق الأقاليمي: ”تتيح التمارين، مثل «أوبنغامي إكسبريس»، فرصةً لاختبار بعض ركائز استراتيجية الأمن والسلامة البحرية الإقليمية لخليج غينيا، ولا سيما تبادل المعلومات، وتوحيد الإجراءات العملياتية، وتعزيز التعاون بين شركاء القطاع البحري.“
وجملة القول أن الخبراء يرون أن دول القارة صارت تحطم الحواجز وتبدي استعداداً أكبر للتعاون.
قال السيد دينيس ريفا، خبير الأمن البحري بمعهد الدراسات الأمنية، لمنبر الدفاع الإفريقي: ”أرى تحسناً في قدرة الدول على تبادل هذه المعلومات، تبادلها فيما بينها، ومع الشركاء الدوليين والمنظمات الدولية مثل الإنتربول. فقد تحسنت القدرة، وزادت الإرادة السياسية في البلدان الإفريقية لتبادل المعلومات والتفاعل فيما بينها.“
