تسببت الهجمات التي شنتها ميليشيا الحوثي اليمنية في البحر الأحمر في تعطيل حركة التجارة العالمية على نطاق واسع، إذ انتهك هؤلاء الإرهابيون حُرمة الممرات البحرية من خليج عدن إلى المحيط الهندي، وأجبروا السفن على تغيير مساراتها، فطالت مسارات الشحن بما يصل إلى أسبوعين وآلاف الأميال البحرية.
وقد استهدف الحوثيون ما يزيد على 100 سفينة في البحر الأحمر وخليج عدن وبحر العرب، وكشفت هجماتهم عن المشكلات التي تواجهها 37 دولة ساحلية إفريقية في نشر الأمن على طول سواحلها الشاسعة وفي مناطقها الاقتصادية البحرية.
فالدول الساحلية الإفريقية تعاني من الإرهاب، ولا تسلم من تهديدات مثل القرصنة، وإلقاء النفايات السامة في البحر، والصيد غير القانوني، والصيد الجائر، والتهريب، والاتجار بالبشر والمخدرات والأسلحة. ولا يواجه الإرهابيون سوى أقل القليل من سفن الدوريات في المياه الشاسعة على طول سواحل إفريقيا.
يقول الدكتور فرانسوا فري والدكتور مارك بلين في بحث لهما نشره مركز إفريقيا للدراسات الاستراتيجية: ”الأمن البحري شريان حياة للقارة الإفريقية التي تُعرف أحياناً بأنها أكبر جزيرة في العالم، وقد أدى تصعيد الهجمات على حين غرة إلى تجدد التهديدات … وكشف عن تهلهل الأمن البحري الإفريقي، ولا تقتصر تداعيات ذلك على البحر الأحمر، بل تشمل القارة بأكملها.“
أخذت الحكومات تدرك أن قوات الأمن البحري التابعة لها لا يكفيها التمويل اللازم للمهام الموكلة إليها، فقد اعتادت البلدان الإفريقية على تخصيص معظم تمويلها الأمني لجيوشها، وأهملت القوات البحرية وخفر السواحل، فلم توفر لها ما يكفيها من أساطيل الدوريات ولا الأفراد.
ومن البدائل المتاحة للأمن البحري التقليدي بتمويل الحكومات هو إشراك شركاء من القطاع الخاص لتقاسم المسؤوليات. وتستعين الشراكات بين القطاعين العام والخاص بالأكاديميين وخبرات واستثمارات القطاع الخاص لتخفيف العبء المالي الملقى على كاهل الحكومات في مشاريع شتى، مثل توليد الطاقة وصيانة البنية التحتية. ويقول الباحثون إن البلدان الإفريقية يمكنها الاستفادة من هذه الشراكات للارتقاء بمستوى الأمن البحري.

يرى السيد فاسو غوندن، مؤسس المركز الإفريقي للتسوية البنَّاءة للنزاعات، أن الاستراتيجيات العسكرية تُدبر عن الطرق التقليدية لحفظ السلام وتُقبل على طرق فرض السلام. وأفاد موقع «ديفنس ويب» أنه قال في ثنايا الكلمة التي ألقاها أثناء انعقاد مؤتمر عن الشراكات بين القطاعين العام والخاص في جنوب إفريقيا في آذار/مارس 2025 إن هذه الشراكات أمست ”آلية حاسمة لتسليح وتحديث قوات الدفاع لحُسن التعامل مع حرب المدن ومكافحة التمرد والإرهاب.“
وفي نفس المؤتمر أيضاً، أوضح السيد ديريك مغويبي، وهو جنرال جنوب إفريقي متقاعد، أن التعاون الإقليمي في بقاع من إفريقيا لا يزال غير متسق جرَّاء السياسة والتأخيرات البيروقراطية، وأن هذا يتسبب في عدم نشر الموارد العسكرية اللازمة في الوقت المناسب في مناطق الأزمات، حسبما ذكره موقع «ديفنس ويب». وشدَّد متحدثون آخرون في المؤتمر على ضرورة الشراكات بين القطاعين العام والخاص في ”إحلال السلام“ وإعادة الإعمار بعد انتهاء الصراع.
ويقول مركز سياسة الطاقة العالمية إن هذه الشراكات ”أمست من أبرز الاستراتيجيات المتبعة لحل العراقيل المالية لمشاريع البنية التحتية.“ وأوضح أن أداء هذه الشراكات في أرجاء إفريقيا لا يزال يتسم بالتباين، فبعضها أخفق في التحضير، وبعضها في المشتريات، وبعضها في إدارة المخاطر، وبعضها في الشفافية.
تنسيق الاستجابة
فري أستاذٌ متقاعد للعلوم العسكرية في جامعة ستيلينبوش بجنوب إفريقيا، وله كتاباتٌ ومحاضراتٌ مستفيضة في موضوع الشراكات بين القطاعين العام والخاص، ويقول إن مختلف التهديدات البحرية التي تواجهها إفريقيا إنما تتطلب استجابة ”منسَّقة.“
وقال في مقابلة أجراها معه موقع «ديفنس ويب» في عام 2025: ”لا يمكن أن تُلزَم الحكومات باتخاذ الإجراءات اللازمة، بل عليها أن تقيم شراكات مع القطاع الخاص في مجالات شتى للتعامل مع تعقيدات هذه الأنواع من مخاطر وثغرات الأمن البحري غير التقليدية.“
وأوضح أن الحروب والنزاعات والاتجاهات الجيوسياسية في بقاع أخرى من العالم تجبر البلدان على العودة إلى المخاوف الأمنية ”العويصة“ التي تنطوي على تهديدات تقليدية، لكنه نوَّه إلى أن مشكلات إفريقيا مختلفة.
وقال للموقع: ”أظن أنه في حالة إفريقيا، لا يزال التوازن الأكبر بين المخاطر والثغرات الأمنية في كفة الأمن البحري غير التقليدي،
وهو ما استأثر بشطر كبير من وقت إفريقيا ومتخذي القرار والشركاء الأفارقة على مدى الـ 10 أو 15 سنة الماضية. كما أميل إلى القول إنه لا يزال في مجال مخاطر وتهديدات الأمن البحري غير التقليدي ومواطن الضعف التي تستحق من متخذي القرار الأفارقة وهيئاتهم والدول الساحلية أن يهتموا بها في مواردهم، وبناء قدراتهم، وتشكيل مجتمعات الممارسين؛ ذلك لأن إفريقيا نوعاً ما تقف على الهامش قليلاً من حيث المواجهات الكبرى بين الكيانات الكبرى ذات القوات البحرية الضخمة.“

يقول مركز سياسات الطاقة إن الشراكات بين القطاعين العام والخاص تتطلب عنصري التنظيم والنزاهة، فإقامتها يتطلب تخطيطاً مسبقاً دقيقاً، يشمل دراسات الجدوى والتوقعات وتحليلات التكلفة والعائد، وإذا تطلب الأمر تقديم عروض في مناقصات عامة، فيجب أن تتصف بالشفافية والتنافسية. وأضاف في تقرير صادر في أيَّار/مايو 2025 أن هذه الشراكات تتطلب ”مؤسسات تتسم بالكفاءة، وتنسيقاً مبسطاً بين المؤسسات، ودعماً سياسياً متسقاً“ لحسن التنفيذ.
ويقول فري إن مدونة جيبوتي لقواعد السلوك ومدونة ياوندي لقواعد السلوك يُعدان من الأمثلة على نجاح الشراكات الدولية بين القطاعين العام والخاص، إذ يتضمنان شراكات بين البلدان والشركات الخاصة والمنظمات الدولية.
وقد ورد في تقرير صادر عن صحيفة «نورث أفريكا بوست» في عام 2025 أن بعض البلدان الإفريقية باتت بفضل حكوماتها ومناخ الأعمال فيها أفضل من غيرها لإقامة شراكات بين القطاعين العام والخاص. وذكر أن خمسة بلدان جعلت من نفسها ”بلدان رائدة على مستوى القارة، بينما لا تسلم بلدان أخرى من تحديات جسام في استقطاب وإدارة الاستثمار الخاص في البنية التحتية العامة.“
وذكرت الصحيفة أن كلاً من مصر وغانا والمغرب ونيجيريا وجنوب إفريقيا تتولى زمام المبادرة في ذلك، تليها ساحل العاج ورواندا. ومن مواطن قوة هذه البلدان وضع ”بنود تعاقدية مبتكرة“، ونمو قطاعي الطرق السريعة والاتصالات، وإقامة ”شراكات شفافة.“
انقطاع كابل اتصالات بحري
انقطع أحد كابلات الاتصالات البحرية في شرق المحيط الأطلسي في وادي الكونغو في عام 2023، وكشفت تلك الواقعة عن إمكانات التعاون بين القطاعين العام والخاص، وأظهرت ضرورة ذلك التعاون. فقد كشف تحقيق أن الطين والانهيارات الصخرية تحت سطح البحر تسببت في الانقطاع، وتضررت أربعة أنظمة، وهي نظام كابل غرب إفريقيا، وجنوب الأطلسي 3، وساحل إفريقيا إلى أوروبا، ووصلة أنغولية. وكانت سفينة «أورانج مارين»، وهي سفينة مخصصة لإصلاح الكابلات قبالة سواحل إفريقيا، في كينيا آنذاك، لكنها أبحرت جنوباً لإصلاح الخطوط.

وكالة الأنباء الفرنسية/نور فوتو
تضرَّر الكابل جرَّاء أسباب طبيعية، لكنه كان بمثابة جرس إنذار للمسؤولين الحكوميين بشأن حماية البنية التحتية تحت سطح البحر، بما فيه حمايتها من التدخل البشري. فقد ذكرت دراسة نشرتها مؤسسة «تريندز للأبحاث والاستشارات» في عام 2024 أن انقطاع الإنترنت تحت سطح البحر يمكن أن يُشكِّل تهديداً خطيراً لأمن العالم الرقمي واستقراره. وحذَّرت الدراسة من أن الهجمات الإرهابية على الكابلات البحرية يمكن أن تؤدي إلى ”شلل تام للخدمات الرقمية على نطاق عالمي، فتسبب فوضى اقتصادية واجتماعية عارمة.“
وقال السيد علي أبو فرحة وحمد الحوسني، اللذين أعدا تلك الدراسة، محذرين: ”ويمكن أن يفضي ذلك إلى تعطل البنوك والشركات والمؤسسات الحكومية، وإلى توقف الخدمات الطبية والتعليمية عبر الإنترنت.“
ويقولان: ”ويمكن أن تثير مثل هذه الحوادث ردود فعل عسكرية، فتزيد احتمالية نشوب صراعات ونزاعات دولية.“ وضربا مثلاً بحادثة وقعت في آذار/مارس 2024، حينما انقطعت ثلاثة كابلات بحرية في البحر الأحمر، ”مما أثر على %25 من تدفق البيانات بين آسيا وأوروبا.“ وحدث ذلك أثناء هجمات إرهابية شنَّها الحوثيون على حركة الملاحة الدولية في البحر الأحمر، ”وترتب على ذلك تشكيل لجان تحقيق لتحديد ما إذا كان الحادث عن عمد أو غير عمد، وإمكانية ارتباطه بالأعمال الإرهابية التي يقوم بها الحوثيون.“
وذكرت مجلة «ديتا سنتر داينامكس» أن خبراء الإصلاح رجحوا بعد ذلك أن الكابلات تضرَّرت بسبب جر مرساة سفينة الشحن «روبيمار» بعد قصفها بصواريخ الحوثيين.
من المعهود أن ملكية هذه الكابلات البحرية تؤول لشركات، ولكن لا غنى عنها للحكومات الحديثة، وعادةً ما تُجري شركات أخرى هذه الإصلاحات، وتدل على أن الحكومات لا بدَّ لها من إقامة علاقات متينة وراسخة مع متخصصين في القطاع الخاص، حتى ولئن لم تُبرم اتفاقيات شراكة رسمية بين القطاعين العام والخاص. وتزداد هذه العلاقات تعقيداً لأن أنظمة الكابلات كثيراً ما تمتد في ولايات قضائية وطنية ودولية متعددة.
فيقول فري: ”تتسم القدرة على تحديد التهديدات ومواطن الضعف في شبكات كابلات البيانات البحرية بأنها متقدمة نسبياً؛ وهي مقسمة إلى ثلاث فئات: طبيعية وعرضية ومنهجية. وكلها تفتح الباب أمام إصلاحها بأساليب معروفة، يتصدَّر لها القطاع الخاص في أغلب الأحيان.“

«جهة مخصصة»
لا تكاد توجد دولة قادرة على التعامل مع قضايا الأمن البحري، على تشابكها واتساعها، بمفردها. فيقول فري وبلين في دراستهما المنشورة في عام 2024: ”لا توجد في الوقت الراهن أي قوة بحرية في شرق إفريقيا قادرةٌ على شن عمليات لمكافحة القرصنة في مياهها. “كما كشفت هجمات الحوثيين” تراخي بعض الموانئ الإفريقية، فتضطر السفن إلى الانتظار طويلاً خارج الميناء، فتصبح أشد عرضة للقرصنة وغيرها من الجرائم.“
ويشدِّد الباحثون على ضرورة الالتزام التام بالشراكة الأمنية بين القطاعين العام والخاص، حتى لو اقتضى ذلك إضافة مستويات جديدة من البيروقراطية.
فقد نقل موقع «ديفنس ويب» عن فري قوله: ”لا ريب أن العمل باستراتيجية للأمن البحري يُعد خطوة إرشادية رائعة للتعرف على أنواع الشراكات التي ينبغي إقامتها بين القطاعين العام والخاص؛ وهذا ليس بالعمل الهين، إذ لا بدَّ من وجود هيئات تنسيق رفيعة المستوى بين القطاعين العام والخاص لتذليل العقبات البيروقراطية، وانعدام الثقة بين الأطراف المعنية في القطاعين العام والخاص، وعدم كفاية السياسات.“
وأكد على ضرورة إيلاء الحكومات أولوية للشراكات، وذلك بتحديد ”جهة مخصصة لإدارة هذه الشراكات“، بدلاً من أن تكون ركناً من أركان استراتيجية أمنية أوسع، أو مجرد ”محور من محاور أجندة أوسع بكثير.“
فيقول: ”لا بدَّ من وجود جهة محددة تتولى إصدار التقارير العالمية وتسهم في الإسراع بوضع استراتيجية للأمن البحري.“ ο
