ما لبث النقيب إبراهيم تراوري أن قام بانقلاب في بوركينا فاسو في أيلول/سبتمبر 2023، وهو ثاني انقلاب فيها في عام واحد، حتى بدأت مقاطع فيديو مفبركة تناشد المواطنين البوركينابيين بتأييد الانقلاب.
ومنذ ذلك الحين، وتراوري نجمٌ لامعٌ في الكثير من مقاطع الفيديو المفبركة، تُصوِّر زعيم العسكر وهو يصافح قادة العالم، أو يوبخ صندوق النقد الدولي، أو يخاطب البابا ليو الرابع عشر بلسان إنجليزي مبين.
وقد صُممت هذه المقاطع بعناية فائقة لتحريك مشاعر الجماهير.
فيقول موقع «هوم أنغل» أن السيد ياو كيسي، وهو كاتب إفريقي شهير على «لينكد إن»: ”حين يسمع الناس أصواتاً، حتى لو كانت مُصطنعة، تصدح بجرأة عما كان يجيش في صدورهم دوماً ونادراً ما سمعوه، فهذا يلامس وجدانهم.“
والتزييف العميق عبارة عن محتوى فيديو أو صوت مُولَّد بالذكاء الاصطناعي، ومُصمم لمحاكاة صور وأصوات شخصيات بارزة للترويج لمعلومات زائفة، وتنتشر بسرعة في أرجاء إفريقيا، إذ لا تقدر معظم البلدان على اكتشافها وحظرها.
تُعد مجموعة فاغنر الروسية (الفيلق الإفريقي حالياً) واحدة من المصادر المحتملة للتزييف العميق الذي يروج لروايات مؤيدة لروسيا والعسكر في بلدان مثل بوركينا فاسو ومالي والنيجر.
ومثال ذلك أن مجموعتان مقرهما فرنسا، وهما «بلاك ريبليون» و«إنيفر إنسبيرو»، أنتجتا خطابات تراوري، وقد خصصتا أكثر من 90% من محتواهما لزعيم العسكر في بوركينا فاسو. ومع أن هذه المقاطع تُشيد بتراوري، فيبدو أن لا غاية لها، كما يقول الخبراء، سوى جني المال من المحتوى الذي يستغل صورة تراوري ويشاركه ملايين المشاهدين.
فقال السيد أدريان مور، مستشار تدريب تكنولوجيا المعلومات المقيم في لندن، لموقع «هوم أنغل» مؤخراً:”لدينا اليوم رسالة مُلهمة من إبراهيم تراورى، وقد نراه غداً يُروِّج للتحيز أو يُبرر الجرائم، وما يقول سيُقبل، بل وسيُتَّبع.“
وما بوركينا فاسو إلا مثالٌ واحدٌ على أجواء التزييف العميق في إفريقيا، إذ يتعرَّض متابعو وسائل الإعلام في أرجائها لطوفان من المحتوى المفبرك، بداية من التزييف العميق الذي يستهدف المنافسين في الانتخابات، وصولاً إلى مذيعي الأخبار المُصطنعين الذين يبثون الأخبار الدعائية، بوجوه مُستعارة من شخصيات لا تدري ما يحدث بها. فقد استخدم الطرفان المتقاتلان في السودان صوراً مفبركة بالتزييف العميق للتشنيع ببعضهما البعض في عالم الإنترنت.
واستُهدفت وسائل الإعلام كثيراً في محاولة واضحة لإضفاء المصداقية على المعلومات الزائفة، فكشفت قناة الجزيرة القطرية مؤخراً عن مخطط يتضمن ”صحفيين أشباح“ انتحلوا شخصية موتى لنشر دعاية مؤيدة لروسيا في غرب إفريقيا ووسطها.
وكشف تحقيق أجراه المرصد الإفريقي للديمقراطية الرقمية عن صحفية غانية من نتاج التزييف العميق، وكشف حسابها على وسائل الإعلام الاجتماعي وموقعها الإلكتروني. وتوصل إلى أن مصداقيتها الظاهرة مكنتها من نشر معلومات زائفة عن القادة الغانيين والمنظمات الدولية في وسائل الإعلام الإفريقية.
وفضلاً عن التزييف العميق المُولَّد بالذكاء الاصطناعي، يتعرَّض الأفارقة أيضاً لطوفان يُسمى التزييف الرخيص، وهو عبارة عن فبركة بسيطة مثل استبدال الصوت في أحد مقاطع الفيديو بكلام مُولَّد بالذكاء الاصطناعي يُحاكي صوت المتكلم في المقطع الأصلي.
ويقول المحللون بوكالة إيكوفين مؤخراً: ”بفضل تطور الذكاء الاصطناعي التوليدي، يكاد يكون من الممكن إجبار أي شخص على أن يقول أو يفعل أي شيء على الشاشة، وبواقعية تسترعي النظر.“
وذكر السيد رافائيل نكولودو أفان، الخبير القانوني والمتخصص في القانون الرقمي المقيم في الكاميرون، أن مُروّجي التزييف العميق يستغلون طبيعة الناس التي يغلب عليها تصديق ما يرونه ويسمعونه على الإنترنت.
وقال لوكالة إيكوفين: ”تُعتبر المرئيات منذ قرون دليلاً على الأصالة، ولكن يمكن للتكنولوجيا اليوم اختلاق حقائق مُقنعة أشد الإقناع؛ والعقل البشري، غير المُدرَّب على التفريق بين الخداع الرقمي والمحتوى الحقيقي، يصير لقمة سائغة لهذه الأوهام المُعقدة.“
ويقول الخبراء إن خطر التزييف العميق يتزايد في ظل غياب التنظيم الواضح لوسائل الإعلام الاجتماعي في البلدان الإفريقية. كما تحولت منصات الإعلام الاجتماعي الشهيرة إلى مصادر رئيسية للمعلومات حتى بعد تخاذلها عن التخلص من المحتوى المضلل.
وفي الفترة الممتدة بين عامي 2018 و2023، وضعت ستة بلدان (وهي الجزائر وبنين ومصر وموريشيوس ورواندا والسنغال) استراتيجيات وطنية للذكاء الاصطناعي، وقطعت بلدان أخرى (مثل إثيوبيا وغانا وكينيا وموريتانيا والمغرب ونيجيريا وأوغندا وجنوب إفريقيا وتنزانيا وتونس) شوطاً في سياسات ومؤسسات الذكاء الاصطناعي الرامية إلى التصدي لخطره.
ومثال ذلك أن أوغندا عدلت قانون إساءة استخدام الكمبيوتر في عام 2022 لتجريم تعمد نشر المعلومات الزائفة، ومنها التزييف العميق.
ويقول الخبراء إن البلدان الإفريقية لا بدَّ لها من بذل المزيد من الجهد لتعزيز حُسن استخدام الذكاء الاصطناعي ومنع التزييف العميق من تقويض الاستقرار السياسي والاقتصادي في أرجاء القارة.
فيقول محللو وكالة إيكوفين: ”لا يسع إفريقيا أن تظل مكتوفة الأيدي، فالنضال من أجل الحقيقة الرقمية وثيق الصلة بقضايا السيادة والاستقرار الديمقراطي والثقة العامة، فالأمر لا يتعلق برفض تقدم الذكاء الاصطناعي، بل بالتأكد من استخدامه بمسؤولية، ووضع ضمانات تقي من إساءة استخدامه.“
