لم يكد يمر عامان على الحرب الأهلية التي نشبت في السودان في نيسان/أبريل 2023 حتى سفك الفصيلان المتقاتلان دماء 28,700 سوداني أو يزيد، أكثر من ربعهم من المدنيين، وكان نصف الشعب يحتاج إلى مساعدات إنسانية، وفرَّ ما يقرب من ثلثهم من ديارهم.
ولكن قبل أن تُراق الدماء وتُهدم المباني بالقنابل والرصاص، كان هنالك سلاحٌ خفي يفسد العالم السيبراني في السودان. للسودان تاريخٌ في حجب الإنترنت منذ عهد عمر البشير، وأفاد موقع «إنكستيك» الإخباري غير الربحي المتخصص في السياسة الخارجية أن الشعب السوداني حين خرج إلى الشوارع للمطالبة بإقالة البشير في عام 2019، تعاونت حكومته مع مرتزقة روس لنشر معلومات زائفة.
ويقول الموقع إن قوات الدعم السريع قامت في نفس العام ”بتنظيم حملة تأثير لتلميع صورة قادتها.“ وما إن نشبت الحرب مع القوات المسلحة السودانية في عام 2023، ظهر حسابٌ مزيفٌ على منصة إكس، ادعى كذباً أن المدعو محمد حمدان دقلو، الشهير بحميدتي، قائد الدعم السريع، قد لاقى حتفه في الحرب متأثراً بجراحه.
وقبل نشوب القتال بالعُدة والعتاد، حصلت قوات الدعم السريع على برنامج تجسس يُسمى «بريديتور»، يتيح لمستخدميه جمع البيانات وتتبع الهواتف المحمولة التي يصيبها، ويمكنهم من الاطلاع على الرسائل وملفات الوسائط والمواقع وسجلات التصفح وسجلات المكالمات، ويعمل في وضع التخفي، ويجعلهم يحددون له ما يريدون جمعه.
كان من الجلي أن الجنود والدبابات والطائرات والقنابل والرصاص لن تكون الأسلحة الوحيدة في الحرب، وإنما تسلح المقاتلون بلوحات المفاتيح واللوحات الأم وبرامج الكمبيوتر والمخترقين.

قال الدكتور ناثانيل ألِن، رئيس العمليات السيبرانية في مركز إفريقيا للدراسات الاستراتيجية، لموقع «إنكستيك»: ”هنالك عادة تتمثل في عدم الانتباه للحرب السيبرانية في الصراع إلا بعد انتهاء القتال بأشهر، كما أن الحرب السيبرانية تتجاوز التوقيت الدقيق للصراع الفعلي.“
لا تختلف الأسلحة السيبرانية عن الأسلحة المستخدمة في ساحة المعركة في تنوعها وفعاليتها، فالبرامج الخبيثة، وبرامج التجسس، وحسابات الإعلام الاجتماعي الهدَّامة، والفيروسات، والتزييف العميق باستخدام الذكاء الاصطناعي، كلها ليست سوى بضع أمثلة على الأدوات التي تُعيد تشكيل الصراعات وتفتح جبهات متعددة.
«السكين السويسري الرقمي»
يمكن أن تكون وسائل الإعلام الاجتماعي أداةً رخيصة السعر شديدة الأثر لتشكيل حقائق جديدة، فقد استُخدمت هذه المنصات للتأثير على المدنيين وإخفاء الانتهاكات في البلدان التي يمسك فيها العسكر بزمام الحكم، وتستخدمها الجماعات الإرهابية للتأثير في الرأي العام.
قالت النيجيرية هداية حسن، الزميلة البارزة في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، لمنبر الدفاع الإفريقي عبر البريد الإلكتروني: ”لا تفتر جماعات مثل بوكو حرام وحركة الشباب عن نشر أخبار زائفة، ومقاطع فيديو مُفبركة، أو مبالغات عن نصرها، ومحتوىً صادماً لإثارة الخوف؛ وغايتها من ذلك بث الفتنة، وإثارة الذعر، وهدم الثقة بالحكومات.“
وذكرت أن حركة الشباب تستهدف الشباب في كينيا وتنزانيا بمنشورات على مواقع الإعلام الاجتماعي باللغة السواحيلية، ونجح تنظيم داعش في تجنيد أفارقة من غانا ونيجيريا ودول أخرى للمشاركة في قتاله في سوريا.
وأضافت أن المتطرفين يستخدمون أيضاً تطبيقات مراسلة مشفرة مثل سيغنال وتلغرام لتأمين اتصالاتهم الداخلية والتخطيط للهجمات: ”فهذه المنصات تسمح بتنسيق الهجمات ونشر المعلومات لجمهور أوسع.“
ويقول خبير الأمن براندون شينغ في مقال نشرته مبادرة الحرب غير النظامية في تموز/يوليو 2024 إن وسائل الإعلام الاجتماعي لا تمنح المتطرفين طرقاً جديدة للتواصل فحسب، وإنما ”تُعيد تشكيل طبيعة التمرد من جذوره.“

ومثال ذلك أن داعش أطلق في عام 2014 حملة AllEyesonISIS# لتجنيد مقاتلين جدد، وكان قد بدأ بما يتراوح من 12,000 إلى 15,000 مقاتل، وما لبث أن ضم 40,000 مقاتل من 110 دولة أو يزيد، ويقول شينغ: ”كثرة الأعداد ليست مجرد تعزيزاً عسكرياً، بل دليلٌ على قوة وسائل الإعلام الاجتماعي الجبارة في الصراعات الحديثة.“
ووصف هذه المنصات بأنها حراب رقمية ماضية كمضاء الحراب العسكرية سويسرية الصنع لتعدد وظائفها بتعدد مآرب مستخدميها.
فيرى أنها تعزز حملات التجنيد، وتجعل الجهات الهدَّامة تتكيف بسرعة البرق، ”فتحول كل هاتف ذكي إلى مركز قيادة“، ويُصبح كل من يستخدمها قادراً على نشر الدعاية الإرهابية.
سيظل الخطر الناجم عن الدعاية التي تقوم بها الجماعات الإرهابية يتفاقم في ظل انتشار الإنترنت ووسائل الإعلام الاجتماعي في أرجاء القارة، فقد كشف تقرير صادر عن مركز إفريقيا للدراسات الاستراتيجية في آذار/مارس 2024 أن 300 مليون إفريقي انضموا إلى منصات الإعلام الاجتماعي في سبع سنوات، ليصل إجمالي عدد روَّادها النشطين إلى 400 مليون. كما يستخدم الإنترنت 200 مليون إفريقي آخرين.
حقيقة أم خيال؟
وفي ظل التوسع الرقمي، تتزايد الأجهزة والأنظمة المتصلة بالإنترنت، وتُعرف بمصطلح «إنترنت الأشياء»، وهذه الاتصالات كثيراً ما تقوم بجمع ونقل وتخزين معلومات خاصة أو حساسة معرضة للاختراق، كما يزيد الاتصال من خطر الإصابة بالبرامج الخبيثة وهجمات حجب الخدمة. ولكن يمكن لجدران الحماية، وإجراءات التحقق القوية، والتشفير أن تسهم في سد هذه الثغرات.
ويُعد استخدام الذكاء الاصطناعي أحدث جبهة من التهديدات السيبرانية تواجه البلدان وقواتها الأمنية، فيقول شينغ: ”استخدامات الذكاء الاصطناعي في التمرد متعددة ومثيرة للقلق“، وذكر أن الدعاية المولَّدة بالذكاء الاصطناعي يمكنها استغلال الانقسامات الثقافية والمجتمعية بتضخيم المظالم وخلق حالة من البلبلة، بما يؤثر على الرأي العام ويعزز تجنيد الإرهابيين، والخوارزميات المعتمدة على الذكاء الاصطناعي قادرة على إنجاز ما ينجزه مخترق الإنترنت في طرفة عين، فتجمع كميات هائلة من البيانات وتعطل الاتصالات.

ولعلَّ أكثر ما يخيف في الذكاء الاصطناعي هو قدرته على تغيير نظرة الناس للواقع، وذلك من خلال «التزييف العميق» مثلاً، والتزييف العميق عبارة عن ملفات فيديو أو صوت مُتلاعب بها أو مُفبركة، ظاهرها شخصيات مشهورة أو سياسيون أو غيرهم يقولون أو يفعلون أشياءً لم يقولوها أو يفعلوها في الواقع. ولك أن تتخيَّل ما يترتب على فيديو يفتري على أحد زعماء إفريقيا ويظهره وهو يُروِّج دعاية تروجها جماعة إرهابية. كما يُمكن استخدام الذكاء الاصطناعي للتلاعب بصوت شخصية مشهورة لابتزاز أناسٍ يحسبونها مقاطع صوت أصلية ويأخذون الأموال أو المعلومات التي يريدونها منهم.
قالت السيدة جولي أوونو، المديرة التنفيذية لمنظمة «إنترنت بلا حدود»، لمجلة «ماذر جونز»: ”يُشيد الجميع بمنافع الذكاء الاصطناعي للحكومات الإفريقية، ولكن لا يُشير أحدٌ إلى المخاطر، وهي ليست من ضروب الخيال العلمي، فقد رأينا ما يُمكن فعله في المحتوى المكتوب، لكننا لم نرَ بعد ما يُمكن فعله في محتوى الفيديو.“
رأينا نماذج عن المشكلات التي يُمكن أن يُسببها المحتوى المولَّد بالذكاء الاصطناعي، فقد ذكرت مجلة «ماذر جونز» أن السيد علي بونغو، رئيس الغابون سابقاً، أمضى في مطلع عام 2019 عدة أشهر خارج البلاد للتداوي بعد إصابته بسكتة دماغية، وظهرت بسبب طول غيابه تكهناتٌ حول حالته الصحية، كأن ظنَّ البعض أنه مات. فنشرت الحكومة مقطع فيديو صامتاً له، فاطمأن بعض الناس، وشعر البعض بأن في الأمر مكراً وخديعة، وحاول الجيش الغابوني القيام بانقلاب بعد أسبوع، مدعياً أن الفيديو دليلٌ على أن في الأمر خطبٌ ما، ووصفه أحد منافسي بونغو بأنه مصمم بتقنية التزييف العميق. وانقسم الخبراء حول صحة الفيديو، لكنه حقق غايته.
والتزييف العميق ليس التهديد الوحيد الناجم عن الذكاء الاصطناعي، بل قالت حسن لمنبر الدفاع الإفريقي إن البوتات الآلية والحسابات المزيفة على وسائل الإعلام الاجتماعي يمكنها محاكاة البشر في تفاعلهم، فتمكِّن المتطرفين من التوسع في نشر فكرهم المتطرف وتجنيد عناصر جديدة. ويمكن للصور والنصوص المولَّدة بالذكاء الاصطناعي أن تساعد العناصر الإجرامية على جمع المال بنداءات إنسانية احتيالية، فتحرم القضايا المشروعة منها. كما يمكن للذكاء الاصطناعي أن يعزز قدرة المخترقين على اختراق أنظمة المراقبة والبنية التحتية.

على تعزيز سياسات واستراتيجيات الأمن السيبراني. فيليب ريغينا/الجيش الأمريكي
استجابة البلدان الإفريقية
في ظل هذه التهديدات وتزايدها، تستكثر بعض البلدان من تعزيز إجراءاتها الدفاعية، فيقود المركز الوطني لتنسيق الأمن السيبراني في نيجيريا جهوداً لإنشاء شبكة لا تتأثر بالهجمات الخبيثة التي تشنها جهات حكومية وغير حكومية، كالجماعات الإرهابية.
وأوضحت حسن أن المركز ”يعضد فريق الاستجابة لحالات الطوارئ الحاسوبية النيجيري للنهوض بقدرته على اكتشاف التهديدات الإلكترونية والتصدي لها والتخفيف من تداعياتها؛ ومن أمثلة ذلك مواجهة العناصر الهدامة والتصدي للهجمات السيبرانية التي تستهدف البنية التحتية الوطنية الحيوية للمعلومات.“
كما تحرص دول القارة على تبادل خبراتها، ففي الفترة من 29 تموز/يوليو إلى 2 آب/أغسطس 2024، شارك خبراء عسكريون وخبراء في الأمن السيبراني من شتى بقاع القارة في ندوة «سعي إفريقيا» في ليفينغستون بزامبيا لمناقشة الاستراتيجيات وإرساء دعائم التعاون، وغايتها الارتقاء بقدرات الأمن السيبراني في الجيوش، وركزت نسخة 2024 منها على وضع سياسات واستراتيجيات للأمن السيبراني.
وقال السيد أمبروز لويجي لوفوما، وزير دفاع زامبيا: ”تُعد ندوة «سعي إفريقيا» منبراً مهماً يُتيح لنا فرصةً للاستفادة من بعضنا البعض، وتبادل الخبرات، وتعزيز الممارسات المُثلى في طرق التصدي للتحديات السيبرانية.“

وشاركت وزارة الدفاع الكينية في استضافة ورشة عن الاستخدام المسؤول للذكاء الاصطناعي في القوات المسلحة في حزيران/يونيو 2024. وأفاد موقع «ديفنس ويب» أن الورشة أُجريت في نيروبي على مدار يومين، وشارك فيها أفرادٌ من أكثر من 12 دولة للتعرف على الفرص والمخاطر المرتبطة بالذكاء الاصطناعي.
وأكد الفريق أول تشارلز كهَريري، قائد قوات الدفاع الكينية، على ضرورة وضع لوائح شاملة لتنظيم استخدام الذكاء الاصطناعي في العمليات العسكرية.
فقال: ”ينبغي بناء القدرات المحلية لتطوير الذكاء الاصطناعي واستغلاله وتنظيمه، وينبغي لهذه الأطر أن تتناول قضايا مثل خصوصية البيانات والأمن والاستخدام الأخلاقي، وعلى واضعي السياسات أن يتعاونوا مع خبراء التكنولوجيا وعلماء الأخلاق والخبراء العسكريين لوضع سياسات توازن بين الابتكار والمسؤولية.“