استراتيجيات الوساطة يمكن أن تساعد في إنهاء الصراع وترسي أساساً لسلام دائم
تجرّب الدول التي تحاول منع أو نزع فتيل الصراع كافة أنواع استراتيجيات حفظ السلام. فهي تبني ائتلافات من دول للتدخل، وتفرض عقوبات، وتستخدم أجهزة عالية التقنية مثل الطائرات بدون طيار للمراقبة وتدرب وحدات الصفوة للتدخل السريع. ولكنها كثيراً ما تتجاهل واحداً من جوانب حل الصراع أو لا تستخدمه إلا كملاذ أخير: الوساطة.
يبين التاريخ أن الوساطة – حل النزاعات من خلال الحوار- وسيلة فعالة من حيث التكلفة وغير دموية لتحقيق سلام مستقر. ولكنها ليست في بساطة تجميع الأطراف المتحاربة حول مائدة التفاوض وتركها تسوي الأمور بالمحادثات. فالوساطة، مثلها مثل العمليات الحركية، لديها تكتيكاتها، وأساليبها وإجراءاتها الخاصة التي أثبتت عبر السنين، أنها تزيد احتمالات النجاح.
حددت مبادرة إدارة الأزمات التي تتخذ من هلسنكي بفنلندا مقراً لها أربع مراحل للوساطة وبعض الدروس المستفادة في تقرير عام 2013، ويسرد بعض خبراء المبادرة بعض هذه الدروس في مقابلات مع مجلة أيه دي إف.
مرحلة ما قبل المحادثات
يتمثل أهم تقييم يُجرى قبل بدء الوساطة فيما إذا كان الصراع “ناضجا” للحل. ويجب على الوسطاء أن يسألوا: هل الأطراف المتحاربة مستعدة لترك السلاح والسعي إلى السلام بنية حسنة؟ أو أنها لا تزال متمسكة بالفكرة القاتلة وغير المجدية بضرورة كسب الحرب؟
قال ألفارو دى سوتو مساعد أمين عام الأمم المتحدة السابق للشؤون السياسية، إن النضج يحدث عندما يصل المتقاتلون إلى قناعة بأن “تكلفة التوصل إلى اتفاق أصبحت أقل من تكلفة مواصلة الصراع”.
ومع ذلك، فإن انتظار الوقت المناسب يمكن أن يكون مضنياً فيما يرى الوسطاء الحرب وهي تطول بغير جدوى. حذر العقيد مباي فاي، وهو ضابط متقاعد من الجيش السنغالي وعضو سابق في فريق خبراء الوساطة الطارئ التابع لإدارة الشؤون السياسية بالأمم المتحدة، من أن الوساطة السابقة لأوانها يمكن في الواقع أن تجعل الأمور أكثر سوءاً بل وتشعل الصراع من جديد. وقال لمجلة أيه دي إف، “لو لم يكونوا مقتنعين بضرورة أن يتخلوا عن شيء كي يكسبوا، لا تكون عملية الأخذ والعطاء في أذهانهم. وسيكون الدخول في عملية من هذا القبيل عديم الفائدة”.
كانت الوساطة سابقة لأوانها خلال الحرب الأهلية في سيراليون. ففي عام 1996، وقّعت الجبهة الثورية المتحدة وحزب الشعب السيراليوني اتفاق سلام أبيدجان. لكن القتال استؤنف بسرعة. ويعتقد المراقبون الآن أن الصراع لم يكن جاهزاً للوساطة لأن الجبهة الثورية المتحدة كانت لا تزال مقتنعة بأن باستطاعتها الانتصار عسكرياً.
وحتى لو كانت الأطراف المتحاربة جاهزة للدخول في محادثات، يجب على الوسطاء القيام بعمل مسبق لفهم خلفياتها ودوافعها. قال فاي إن الهدف هو العثور على السبب الجذري للصراع. ويوصي بأن يجري الوسطاء بحثاً ينقب على نحو أعمق عن مواد أكثر من تلك المتاحة للعامة لأن المعلومات المنشورة يمكن أن تكون غير دقيقة أو محرفة. وقال إنه يجب على فرق الوساطة أن تجتمع بصورة غير رسمية مع قادة الفصائل على كوب شاي أو فنجان قهوة أو عشاء.
قال فاي إنه يتعين أيضاً على المدنيين ومنظمات المجتمع المدني أن يقولوا كلمتهم. ويمكن أن تكون مفيدة في إقامة ما تصفه بعض بلدان غرب أفريقيا بـ “كوخ التملق”، حتى يتمكن أفراد من المجتمع من الحضور لمناقشة القضايا بشكل غير رسمي دون خوف من العقاب.
تفصل مبادرة إدارة الأزمات العناصر الرئيسية لما قبل المحادثات إلى ثلاث نقاط:
المشكلة: يجب على الوسيط أن يفهم السياق الكامل للنزاع، بما في ذلك القضايا المتنازع عليها؛ التاريخ؛ وآثاراها الوطنية، أو الدينية أو العرقية.
الناس: من هي الأطراف المتحاربة؟ ما مدى قوتها ؟ من تمثل؟ ما هي دوافعها؟
العملية: ما هي القواعد الأساسية للمحادثات؟ هل تم شرح دور الوسيط وقبلته جميع الأطراف؟
مرحلة المحادثات
متى بدأت محادثات السلام فإنها لا تتبع نمطاً ثابتاً، كما أنه ليس لها جدول زمني يُعتمد عليه. وبعض المحادثات، مثل تلك التي استهدفت إنهاء الحرب الأهلية في بوروندي، يمكن أن تستغرق أكثر من عقد من الزمان. بينما محادثات أخرى، كتلك التي أجريت عام 2005 مع متمردي أتشيه في إندونيسيا، انتقلت من التفاوض إلى التنفيذ في أشهر فقط. والمنتدى متغير آخر. فأحياناً تُجرى المحادثات حول طاولة، وأحياناً تأخذ شكل “محادثات التقارب”، التي يتنقل فيها طرف ثالث موثوق به ذهاباً وإياباً بين الجانبين المتحاربين.
ويميل الخبراء إلى الاتفاق على أن أفضل مكان لإجراء محادثات هو خارج منطقة الصراع وغالباً ما يكون خارج البلاد نفسها. وهذا عنصر أساسي لأمن المشاركين في المحادثات، ولكنه يتيح أيضاً للأطراف التفاعل وسط بيئة مفتوحة ومريحة.
كانت النيجيرية الراحلة مارغريت فوجت، ممثلة الأمم المتحدة السابقة في جمهورية أفريقيا الوسطى، تعتقد أنه من الأهمية بمكان إعادة الأطراف إلى منطقة الصراع بصورة دورية “للتحقق من الواقع”. وقالت لمبادرة إدارة الأزمات، “إنهم بحاجة أولاً وقبل كل شيء أن يجلبوا نتائج أي شيء اتفقوا عليه إلى الشعب. وثانياً، عليهم أن يؤكدوا على أن أي شيء يناقشوه يعبر عن أولويات واحتياجات الناس على الأرض”.
المواعيد النهائية: المواعيد النهائية وعلامات التقدم عنصران حيويان. وخلاف ذلك، قد تطول الوساطة على مدى سنوات فيما يتشاحن المتقاتلون على تفاصيل دقيقة. ومع ذلك، يحذر خبراء مبادرة إدارة الأزمات من مغبة تحديد مواعيد نهائية صارمة أو عدوانية، يمكن أن تسفر عن اتفاقات متسرعة تكون أكثر عرضة للانهيار.
يصف فاي المواعيد النهائية الصارمة بأنها “مواعيد موت” لأنها يمكن أن تقتل العملية. وقال فاي لمجلة أيه دي إف، “يجب أن يكون لدينا مواعيد نهائية بغرض التخطيط والتنظيم، ومع ذلك يجب أن تكون هناك مرونة. لأن هذه عمليات حية تعيش مع الناس، وعليك أن تتكيف مع الواقع. والواقع هو المبدأ الغالب”.
في بعض الحالات يكون الموعد النهائي الحازم الذي يقره الطرفان بمثابة حافز لهما على التحرك. فاتفاق الجمعة العظيمة عام 1998 الذي أدى إلى تحقيق السلام في إيرلندا الشمالية كان واحداً من تلك الأمثلة. فقد استمرت المحادثات ساعات بعد الموعد النهائي، ولكن الطرفين وقعا في النهاية على الاتفاق التاريخي.
جميع الأطراف حاضرة: إن الناس المشاركين في الوساطة ليسوا مجموعة واحدة قد يدعوها المرء إلى لقاء اجتماعي. فقادة المتمردين أو المليشيات قد يكونون بغيضين أخلاقياً، ومع ذلك لا بد أن يكون لهم مقاعد حول الطاولة.
قال المطران جورج بيغوزي، وهو وسيط في سيراليون، لمبادرة إدارة الأزمات، “إذا كنت تريد السلام، عليك أن تتحدث مع المتقاتلين. فأنت في سلام بالفعل مع أصدقائك”.
تشكل الجماعات الإرهابية أو جماعات التطرف الأيديولوجي مشكلة أكثر إزعاجاً. ويعتقد بعض الخبراء أنه لا ينبغي مطلقاً إشراكهم في المحادثات. في حين يجادل آخرون بأن إشراكهم هو السبيل الوحيد لنبين لهم أن الحوار يعمل بشكل أفضل من الهجمات. ومن الضروري أيضاً أن يكون لمنظمات المجتمع المدني صوت حتى لا ينظر المدنيون إلى الوساطة باعتبارها مكافأة لا تُعطى إلا للمقاتلين المسلحين.
ويحذر فاي من مغبة اتساع نطاق المحادثات بأكثر مما يجب. وتذكر المشاركة في وساطة في الآونة الأخيرة ضمت أكثر من 100 مندوب تحدثوا نيابة عن فصائل الحزب السياسي المهيمن، ومختلف الجماعات العرقية، والأحزاب السياسية الصغيرة ومنظمات المجتمع المدني.
وقال، “إن المشاركة الكبيرة أكثر من اللازم يمكن أن تعرقل العملية. ويصبح السؤال هو، ’ماذا تريد أن تفعل؟ ومتى؟ ومع من؟‘ إذا كنت ترمي أولاً وأخيراً إلى حل مشكلة الحرب، عليك أولاً أن تتعامل مع الفصائل المتحاربة”.
وسيط واحد: يبين التاريخ أن تعدد الوسطاء يعني أن الأطراف سوف تبحث عن أفضل صفقة وتسعى للعب بواحد ضد الآخر. مثال ذلك محادثات السلام التي أجريت في دارفور في أواخر العقد الأول من الألفية الثالثة. كان لكل من الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة وسطاؤه، “وهذا الأمر أثار ارتباكاً فيما يتعلق بتحديد من هو الوسيط الشرعي الذي يقود العملية فعلاً. فكلا المنظمتين عقدت اجتماعات منفصلة، وكتبت تقاريرها الخاصة، وكان لكل منهما فريق دعم مختلف، مما زاد حالة البلبلة على الأرض”، طبقاً لما كتبته مبادرة إدارة الأزمات.
مثال أفضل على ذلك حدث بعد عنف الانتخابات الكينية عام 2008. فهناك، نصّب أمين عام الأمم المتحدة السابق كوفي عنان نفسه وسيطاً وحيداً وأرشد الطرفين بكل حزم في الانتخابات الرئاسية المتنازع عليها نحو حكومة ائتلافية.
وسيط النية الحسنة: إن الوسيط الفعّال يجب أن يحظى باحترام فوري دون أن يُنظر إليه على أن له مصلحة في نجاح أي من الطرفين. وتحقيقاً لهذه الغاية، هناك مزايا وعيوب لوجود وسيط له روابط مباشرة بمنطقة الصراع. المزايا أنه يعرف الثقافة، والأطراف الفاعلة ولديه اهتمام كامن بالتوصل إلى حل إيجابي. والعيوب أن الروابط المحلية يمكن أن تطغى على حيادية الوسيط في الواقع أو في التصور.
لهذا السبب، قاد العديد من مساعي الوساطة الناجحة في أفريقيا رجال يحظون بالاحترام على نطاق القارة وليس لهم روابط محلية بالصراع. ومن بين الوسطاء البارزين في العقود الأخيرة رئيس تنزانيا السابق جوليوس نيريرى، ورئيس جنوب أفريقيا السابق نيلسون مانديلا وكوفي عنان.
قال أتوندى كاكوما، رئيس برنامج أفريقيا لجنوب الصحراء الكبرى التابع لمبادرة إدارة الأزمات، إن بإمكان الوسطاء أن يسيروا على نهج صريح أو مستتر، تبعاً للموقف. وأشار إلى جهود “التيسير” في أروشا، بتنزانيا، في تشرين الأول/ أكتوبر 2014 مع زعماء الحزب الحاكم في جنوب السودان. فهناك، أبلغ كبير ميسرو الجلسات، وزير دفاع تنزانيا السابق عبد الرحمن كينانا، جميع الأطراف بأنه لا توجد “رصاصة سحرية” لحل المشاكل وكان هناك بصورة رئيسية “للإنصات بتواضع” وليس لفرض حلول.
أضاف كاكوما لمجلة أيه دي إف، “لقد عقد جلسات استماع طويلة اتسمت بالاستماع بصبر لجميع الوفود كل على حدة قبل أن ينطق بكلمة – قبل أن يشرح فهمه للأزمة أو ما يجب عمله. وقام فيما بعد بتجميعهم في جلسة عامة كاملة وقال ’هذا ما سمعتكم تقولونه. هل هذا دقيق؟ هل سمعتكم بشكل صحيح؟ صححوني لو كنت مخطئاً‘”.
وكانت نتيجة محادثات أروشا وثيقة اعترف فيها زعماء الأحزاب صراحة بمسؤوليتهم عن المتاعب التي تقسّم جنوب السودان.
اعتماداً على الأزمة، قد يتطلب الأمر موقفاً أكثر نشاطاً. لا يهتم الرئيس الفنلندي السابق مارتي أهتيساري الحائز على جائزة نوبل للسلام، ومؤسس مبادرة إدارة الأزمات، لمصطلح “محايد” لوصف الوسيط. ويفضل بدلاً من ذلك “الوسيط النزيه”. وقال لمبادرة إدارة الأزمات، “لو قلت إنك محايد، فإنك تقول إنك سوف تذهب إلى المفاوضات للإنصات للأطراف ووجهات نظرها. ومثل هذا النوع من العمليات يمكن أن يستغرق سنوات كثيرة، إن لم يكن عقوداً. فمن المهم أن يعرف أطراف التفاوض من أنا، وماذا أمثل، وأين أرسم خطوطاً حمراء. وبهذه الطريقة يمكنني بصدق وصراحة العمل مع كل طرف باتجاه العثور على حل”.
مرحلة الاتفاق
على الرغم من أن التوصل إلى اتفاق سلام هو هدف أي وساطة، يجب أن يتصف بالنطاق الصحيح، والشمولية والمرونة. ومن المهم أيضاً أن يكون للاتفاق آليات تطبيقه لضمان تنفيذه ومتابعته عالمياً.
يعتقد معظم الناس أن البساطة رصيد مهم لأنه من الأسهل الاتفاق على قائمة أقصر من المواضيع. صرح سليمان بيريوا، النائب السابق لرئيس سيراليون، الذي شارك في محادثات السلام لإنهاء الحرب الأهلية في بلاده، لمبادرة إدارة الأزمات، بأنه “بمجرد الاتفاق على تلك القضايا الرئيسية، فإن القضايا الأخرى ليست بالضرورة في حاجة إلى تناولها في الاتفاق نفسه. وإذا وثقت الأطراف في بعضها البعض، يمكنها حل النزاعات بعد توقيع الاتفاق”.
إذا كان الاتفاق صارماً بأكثر مما يجب ولا يسمح بتعديلات في المستقبل، فإنه يخاطر بانهياره. ومع ذلك، فإن العناصر الأساسية للاتفاق، ما تسميه مبادرة إدارة الأزمات “الروح” يجب ألا تتغير. وحين تؤجج قضايا متعددة الصراع، مثل توزيع الموارد، والتمثيل العرقي أو الديني في الحكومة/ الجيش، أو ترسيم الحدود، فإن مثل هذه القضايا لا يمكن تجنبها في الاتفاق. أما القضايا الأقل أهمية، مثل مواعيد الانتخابات، فيمكن تأجيلها دون المخاطرة بانهيار الاتفاق بكامله.
من الأفضل عادة البدء بالمواضيع البسيطة والانتقال بعدها إلى القضايا الأصعب. بهذه الطريقة، تكتسب العملية زخماً، مثل كرة تتدحرج أسفل التل، ويتم بناء الثقة بين الطرفين.
مرحلة التنفيذ
يلعب الوسيط والمجتمع الدولي دوراً مهماً في الشهور والسنوات التي تلي توقيع الاتفاق. وخلافاً لمرحلة المحادثات، التي يُستحسن أن يلعب شخص واحد دور الوسيط فيها، يمكن أن يكون ضامنو الاتفاق مجموعة كبيرة ومتنوعة. فقد تضمن اتفاق السلام الشامل الذي وُقّع بين السودان وجنوب السودان عام 2005 لجنة للتقييم والتقدير، تألفت من أطراف مثل الهيئة الحكومية الدولية للتنمية، والأمم المتحدة، والاتحاد الأفريقي، والاتحاد الأوروبي، والجامعة العربية، ودول مختلفة من بينها النرويج، والمملكة المتحدة والولايات المتحدة.
لقد ساعد تنوع المراقبين والضامنين في أن يبين أن العالم يراقب وفي التأكد من الامتثال لبنود معينة متفق عليها، مثل الاستفتاء على استقلال جنوب السودان.
وجدت مبادرة إدارة الأزمات انه من المهم أيضاً تمكين الجهات الفاعلة المحلية لتكون بمثابة الرقيب لضمان الامتثال للاتفاق.
قال فاي إنه من واقع خبرته فإن أهم عناصر التنفيذ هي المراقبة والتحقق. وعلى الطرفين أن يعرفا أن التقدم نحو الأهداف المتفق عليها يخضع للمراقبة، ليس فقط من حيث وقف إطلاق النار وعدم اندلاع قتال، وإنما أيضاً من الناحية السياسية في مسائل مثل بناء ائتلاف حكومي والتحضير للانتخابات.
قال فاي، “إن حقيقة أنك وقّعت اتفاقاً لا تعني أنكما أصبحتما فجأة من الأصدقاء أو أن كلاً منكما أصبح يثق في الآخر. إننا نقول إن الثقة هي أول ضحية للصراع. الثقة في نفسك، والثقة في الآخرين، والثقة في أي منظمة خارجية. فاستعادة الثقة عملية تتطلب المراقبة والتحقق”.
دراسة حالة بوروندي
على الرغم من أن الإبادة الجماعية في رواندا مشهورة على نطاق واسع، فإن الكثير من العناصر الملتهبة كانت موجودة في بوروندي المجاورة في أوائل تسعينات القرن الماضي. ففي تشرين الأول/ أكتوبر 1993، تم اغتيال أول رئيس منتخب ديمقراطياً في البلاد، الذي كان أيضاً أول رئيس من قبيلة الهوتو العرقية، وبدت البلاد على شفا الوقوع في الفوضى.
كتب السفير أدونيا إيبارى، الوسيط الأوغندي الذي عمل في مبادرات سلام في بوروندي، يقول، “إن خطر الإبادة الجماعية في بوروندي كان تقريباً بنفس الشدة التي كان عليها في رواندا، والتي تبلور فيها. فالتحريض على الإبادة الجماعية كان يحدث كل يوم. أما الفرق الذي نجح في منع الإبادة الجماعية في بوروندي هو التواصل الكبير والمستدام من المجتمع الدولي، الذي بعث بالرسالة الصحيحة إلى الشعب الصحيح في الوقت الصحيح”.
ومن المستحيل وصف الوساطة في بوروندي بأنها كانت ناجحة بالكامل. فقد تواصلت أعمال العنف بين فترة وأخرى لأكثر من 15 عاماً، وأدت حرب أهلية إلى مقتل 300000 شخص في البلد الصغير. ومع ذلك، يعتقد الخبراء أن التركيز المستمر من القادة الأفارقة ومن المجتمع الدولي الأوسع أدي إلى تجنب أسوء نتيجة.
قاد الوساطة في البداية رئيس تنزانيا السابق الموقر جوليوس نيريرى. نجح في جمع 19 مندوباً يمثلون مختلف الأطراف في أروشا، بتنزانيا عام 1998. كانت المحادثات مثمرة، ولكن حقيقة استبعاد بعض الجماعات المسلحة كان يعني استمرار القتال.
في عام 2000، بعد وفاة نيريرى، استلم رئيس جنوب أفريقيا السابق نيلسون مانديلا مسؤولية الوساطة. توسط في اتفاق أروشا للسلام والمصالحة الذي وُقّع في آب/ أغسطس 2000. حدد الاتفاق ترتيبات تقاسم السلطة بين الفصائل المتحاربة مع ضمان تمثيل اثنتين من أكبر الجماعات العرقية في قوات الأمن والحكومة.
وفي عام 2002، استلم جاكوب زوما، الذي كان في ذلك الحين نائب رئيس جنوب أفريقيا، دور الميسّر. كتب إيبارى يقول إن أحد الفروق الرئيسية في نهج زوما هو أن يدرس عن كثب الجماعات المسلحة المختلفة داخل بوروندي وخارجها التي كانت لا تزال تقاتل. وأطلق لجنة فنية من مسؤولي الاستخبارات من دول مجاورة ليرفعوا له تقارير عن دوافع الجماعات المسلحة. وجلب كذلك أكبر مجموعة مسلحة، مجلس الدفاع عن الديمقراطية، إلى المحادثات. وفي كانون الأول/ ديسمبر 2002، نجح في حمل جميع الأطراف على توقيع اتفاق شامل لوقف إطلاق النار.
