اللواء الأمير تشارلز جونسون الثالث
يواجه العالم عدواً خفياً، وهو فيروس كورونا الذي يتسبب في مرض كوفيد19-؛ ولذلك ربما نستفيد من استعراض خبرة ليبيريا خلال تفشّي فيروس الإيبولا في الفترة من عام 2014 حتى عام 2016. ومع أننا لم نسلم من وقوع الأخطاء والانتكاسات، فقد تعلمنا أيضاً شيئاً عن الدور الصحيح للجيش في مكافحة الأوبئة. وأخيراً، أعتقد أن الجهود التي بذلتها القوات المسلحة الليبيرية وشركاؤها الدوليون ساهمت في الحد من انتشار الفيروس وإنقاذ المواطنين من براثن الموت، وإنّي لعلى يقين بأن الدروس التي استفدناها سوف ترفع من قدرتنا على مواجهة الأمراض التي يمكن أن تتفشّى في قابل الأيام. وهكذا، أود أن أحيط حلفاءنا في القارة وفي العالم أجمع علماً ببعض من هذه الدروس.
تفشّى الإيبولا في منطقة كثيفة الغابات في غينيا في نهاية عام 2013. وانتقل بحلول آب/أغسطس من العام التالي إلى ثلاثة بلدان مجاورة على الأقل، وأودى الفيروس بحياة ما يزيد على 900 نفس بشرية، من بينهم 232 من ليبيريا. وفاقت الأزمة قدرات الشرطة الليبيرية وقدرات قوات الأمن الأخرى في المنطقة. وفي يوم 7 آب/أغسطس 2014، أعلنت السيدة إلين جونسون سيرليف التي كانت تتولى رئاسة ليبيريا في ذلك الوقت عن فرض حالة الطوارئ في البلاد لمدة 90 يوماً؛ مما كان يعني بموجب المادة 2.3 من قانون الدفاع الوطني الليبيري تكليف القوات المسلحة الليبيرية بتوفير الدعم المتمثل في “خدمات القيادة والسيطرة، والإمداد والتموين، والخدمات الطبية، والنقل، والمساعدات الإنسانية للأجهزة المدنية” لمواجهة تلك الكارثة.
ولكن بقى هنالك سؤالان: ماذا ترتب على هذا التكليف؟ وهل كنّا على استعداد للقيام به؟ وتوضيحاً للسياق، فقد أُعيد بناء القوات المسلحة الليبيرية من الصفر بعد حرب أهلية استعرت نارها 15 عاماً؛ إذ قمنا تحت إشراف الولايات المتحدة وشركتين أمنيتين بتجنيد 2,000 فرد مقاتل بالقوات المسلحة وفرزهم وتدريبهم وتسليحهم. ووفرت المجموعة الاقتصادية لبلدان غرب إفريقيا التدريب اللازم وخرجت القوات المسلحة الليبيرية الجديدة إلى النور عام 2006. وكنا ما نزال بحلول عام 2014 نحاول أن نجد موطئ قدم لأنفسنا؛ إذ شاركنا في تولّي مسؤوليات أمنية مع الأمم المتحدة، واقتصرت مهام القوات المسلحة الليبيرية على الانتشار على الحدود الإيفوارية عام 2012، والمشاركة بقوات في بعثة الأمم المتحدة في مالي بداية من عام 2013.
أضف إلى ذلك أن الفيلق الطبي بالكامل كان يتألّف من وحدة واحدة لا تتجاوز الفصيلة. ولم نضطر من قبل إلى مواجهة أي شيء مثل الإيبولا، وصدرت الأوامر بتكليفنا بمهام توفير الأمن للأطقم والمؤسسات الطبية في البلاد لكي يتمكنوا من مواصلة عملهم في إنقاذ المواطنين من الموت، كما كُلفنا بالحد من حركة المواطنين في خمس مقاطعات شمال غربي البلاد (وهي لوفا، وجباربولو، ومونتسيرادو، وبومي، وجراند كيب ماونت) يبلغ تعدادهم مجتمعين نحو 2 مليون نسمة.
عملية الدرع الأبيض
كانت المهمة التي تشكّلت تُعرف باسم «عملية الدرع الأبيض» واشتملت على المهام التالية:
- تطبيق الحجر الصحي وحظر التجول.
- الوقوف في نقاط التفتيش بالقرب من الحدود وعلى الطرق الرئيسية وقياس درجة حرارة المواطنين.
- توفير حراسات أمنية لفرق الدفن في المناطق التي اتصف أهلها بالعدوانية.
- نقل مواد الإمداد والتموين الأساسية إلى المناطق الوعرة.
ولعل توفير الحراسات الأمنية لفرق الدفن كان أصعب هذه المهام قاطبة. فقد كانت تلك المهمة تمثل تحدياً؛ لأن المواطنين لم يقتنعوا بأنه لا بد من دفن أحبائهم في أماكن بعيدة عن منازلهم بهدف التصدي لانتشار المرض.
وتصدّرت هذه القضية الثقافية المشهد العام، إذ لم تنجح منظمات المساعدات الإنسانية والمنظمات غير الحكومية الدولية في إقناع أفراد تلك المجتمعات بأن هذه هي الطريقة المثلى لمكافحة المرض. فنحن في ليبيريا لم نكن نألف عرف حرق جثث الموتى، وكان علينا، نحن أفراد القوات المسلحة، أن نشرحه للمواطنين ونخبرهم بأنه عليهم تغيير أعرافهم الثقافية لكي نتمكن من مكافحة الفيروس. وشعر المواطنون بخيبة أمل عندما اضطررنا إلى أخذ من ماتوا من أحبائهم بالقوة الجبرية. بل يقوم المواطنون في بعض الأديان بتغسيل الموتى، ولكننا منعناهم من ذلك، فلاقينا منهم مقاومة شديدة.
وعليه، فقد تعلمنا أن الثقافة لا تقل أهمية عن الإجراءات الأخرى عند مكافحة الأوبئة؛ لأن الأمراض تنتشر بسبب السلوك البشري.
عملية المساعدة الموحّدة/الدرع الموحّد
في أيلول/سبتمبر 2014، استنجدت رئيسة البلاد بالمجتمع الدولي لمساعدتنا، وكان الجيش الأمريكي أول جيش ينضم للقوات المسلحة الليبيرية من خلال الفرقة 101 المحمولة جواً، وقامت الفرقة بالبدء في «عملية المساعدة الموحّدة»؛ فأصبح لدينا عمليتان عسكريتان تعملان في بلد واحد. وسرعان ما استشعرنا أهمية القيادة الجيدة.
فعندما وصلت الفرقة 101، كان الفريق المتقدم برئاسة اللواء الأمريكي داريل ويليامز، ووصل سيادة اللواء على متن طائرة محمّلة بكميات من اللوازم الطبية لإنشاء وحدات علاج مرضى الإيبولا التي كنا في أشد الحاجة إليها. ولكن كانت محطته الأولى عندما وصل إلى البلاد تتمثل في التوجه إلى مكتب قائد القوات المسلحة الليبيرية ليطرح عليه هذين السؤالين: “ما الذي لديكم؟ وما الذي تحتاجون إليه؟” ولم يقل: “سنستخدم أدواتنا” أو “سنضع الخطة.” وإنما نظر إلينا لكي نحيطه علماً بالوضع الحالي، مما يُعد نموذجاً للقيادة؛ إذ يحق للبلد المضيف أن يلعب دوراً مهماً في مكافحة الأزمة الإنسانية وتحديد كيفية التصدي لانتشار الأمراض القاتلة. وقد أدرك اللواء ويليامز هذا الحق من اللحظة الأولى.
ولذلك حشدنا مواردنا ووضعنا نموذجنا الخاص بنا، وهذا انعكس في الاسم الجديد للجهود المشتركة؛ إذ أخذنا كلمة “موحّد” من اسم البعثة الأمريكية وكلمة “درع” من اسم المهمة الليبيرية، وكوّنا بهما الاسم الجديد: «عملية الدرع الموحّد».
وكان اللواء ويليامز مكلفاً بمهمة معينة وهي إنشاء 17 وحدة لعلاج مرضى الإيبولا، إذ لم يكن يوجد لدينا في ذلك الوقت سوى وحدة واحدة موجودة في مقاطعة مونتسيرادو. ولم توجد وحدات من هذا القبيل في الـ 14 مقاطعة أخرى في ليبيريا؛ ولذلك كان المرضى يتعرضون للموت بسبب عدم قدرتهم على السفر إلى الوحدة لتلقي العلاج اللازم.
وعندما تحدثنا في هذا الأمر مع اللواء ويليامز، قررنا أن نقلل عدد وحدات علاج مرضى الإيبولا إلى 10 وحدات فقط، وتقليل سعة كلٍ منها بحيث تقتصر الوحدة على 50 سريراً بدلاً من الـ 100 سرير المقررين. وكانت تلك الخطة المثلى لتمكين الليبيريين من دعم الوحدات وإدارتها بمجرد الانتهاء من إنشائها. وتمكّنا من إنشاء ثلاث وحدات في فترة قصيرة، مما ساهم في البدء في تقليل مشكلة عدم توفر مكان لاستيعاب المرضى. وتزايد لدينا بحلول تشرين الأول/أكتوبر 2014 عدد الأسرّة المتوفرة بما يفوق عدد الحالات الجديدة.
كما تعاونا مع الولايات المتحدة لتقديم تدريب قائم على المحاكاة لمسعفينا وبعض قوات المشاة للتعرف على المنهج الأفضل في التعامل مع المرضى، وتضمن التدريب كيفية التعرف على أعراض الإيبولا وكيفية استخدام مستلزمات الحماية الشخصية على الوجه الأمثل. وتعاونت الولايات المتحدة مع الليبيريين في وضع برنامج لتدريب المدربين بحيث يصبح الطلاب الذين حضروا الدورة قادرين على تدريب غيرهم.
ووضعنا هيكلاً لمساندة القوات المنتشرة والعاملين في قطاع الرعاية الصحية، بما يكفل استمرار توفر الأفراد والمستلزمات في الأماكن الأكثر تضرراً. واعتمدت خطة الإمداد والتموين هذه على المروحيات الأمريكية والنقل البري الليبيري.
وتمكنا خلال أسابيع من إضافة مراكز لإجراء اختبارات الكشف عن الفيروس مما ساهم في تقليل الوقت اللازم للتأكد من إصابة الحالة بالمرض من يومين أو ثلاثة أيام إلى عدة ساعات. وأُجريت الاختبارات للمرضى في مراكز ميدانية ونقلناهم إلى وحدات علاج مرضى الإيبولا على الفور بهدف تقليل الوقت الذي يمكنهم فيه نشر المرض. وشهدنا بحلول الأسبوع الأول من عام 2015 تراجعاً كبيراً في أعداد الحالات الجديدة بنسبة %60 مقارنة بالفترات الأسوأ التي شهدناها في آب/أغسطس من العام السابق.
الدروس المستفادة
الشراكات الإقليمية: سرعان ما ذُكّرنا في عام 2014 أننا نعيش في قرية صغيرة؛ مما يعني أنه عليك أن تراقب ما يحدث لجيرانك لكي تتمكن من حماية نفسك. وهذا ما فعلناه، وقد اجتمعنا اليوم بسبب ذلك. فيمكن للشراكات أن تخفف كثيراً من التحديات التي نواجهها في منطقتنا، والعلاقات الثنائية بين القيادات السياسية والعسكرية والمدنية في دول الجوار تيسّر عملية تبادل المعلومات وتنسيق جهود الاستجابة. وقد استفادت من هذا الدرس كلٌ من ليبيريا وغينيا وسيراليون، وإني لعلى يقين بأن الشراكات الإقليمية تتصف بأنها أقوى اليوم من ذي قبل.
التواصل مع المواطنين: تعتبر قضية الثقة واحدة من القضايا الشائكة في دول العالم، ولكن لا يمكنك الانتظار لبناء الثقة خلال الصراعات أو الأزمات؛ وإنما عليكم البدء في بناء الثقة بين المواطنين قبل حدوث ذلك، إذ يتعين على القيادات المدنية في القطاعين العام والخاص المعنيين بمسائل الاستجابة للطوارئ، والطب، والمساعدات الإنسانية، وإجراء الاختبارات، وإنتاج مستلزمات الحماية الشخصية أن تكون لديهم علاقات قائمة على مبدأ الثقة قبل تفشّي الأمراض.
التوعية: أثبتت جهود توعية المواطنين أنها من المحاور الحيوية للوضع الأمني في ليبيريا. فعندما عرف جمهور المواطنين معلومات أكثر عن كيفية انتشار الفيروس وتعرفوا على أهمية إجراءات معينة، مثل الحجر الصحي، أصبح من الأيسر علينا حمايتهم.
التدريب: تولّت القوات المسلحة الليبيرية جرّاء الأزمة مسؤولية الحفاظ على النظام العام في بعض المناطق، وهي في العادة مسؤولية الشرطة. ومن الأهمية بمكان لأفراد القوات المسلحة أن يكونوا مدرّبين وجاهزين للتعامل مع أمور مثل السيطرة على الجماهير مع التحلّي بالصبر وضبط النفس وتجنب استخدام القوة.
تولّي زمام المسؤولية: عندما وصلت الولايات المتحدة، كان اللواء ويليامز يحمل رسالة واضحة: “لم آتِ لتولّي المسؤولية، فأنتم من يتصدّر لهذا الأمر.” وقد أثّر فينا هذا الكلام تأثيراً شديداً عندما سمعناه؛ لأن الليبيريين لما تولّوا مسؤولية التعامل مع المشكلة وتولّوا زمام مكافحة انتشار المرض، أصبح النجاح في تنفيذ المهمة سهل المنال.
التحديات المستقبلية
أصاب الفيروس ما يزيد على 28,000 شخص في منطقتنا، توفي منهم ما يزيد على 11,000 حالة، وبلغ عدد الوفيات في ليبيريا نحو 5,000 حالة. وبما أنني خضت هذه التجربة، فأنا أعلم حجم الجهود المطلوبة للاستجابة. وقد كان عليْ خلال قيادتي للقوات أن أتخذ قرارات صعبة مثل منع أحد الملازمين من زيارة أمه عندما كانت تحتضر من المرض، وأمرته بالبقاء في الحجر الصحي. وهذه القرارات تنفطر لها القلوب، إلّا أنه لا غنىً عن الانضباط للتصدي لانتشار الفيروس؛ لأن أي تقصير في الحجر الصحي يمكن أن يسفر عن انتشار موجة جديدة من الإصابات. وبالنظر إلى المستقبل، فأنا لست خائفاً، ولكن يساورني القلق بشأن فيروس كورونا وخطر الجائحات المستقبلية. ولقد بدأت في التخطيط بالفعل؛ لأنه علينا نحن القادة أن نستمر دائماً في المراقبة والاستعداد لأننا لا نعلم أين ستخرج الجائحة التالية؛ فقدرتنا على التصدي لتحديات الغد تعتمد على القيادة اليوم.
خدم اللواء الأمير تشارلز جونسون الثالث في القوات المسلحة الليبيرية لفترة تزيد على 11 عاماً، ويتولّى قيادة أركان الجيش منذ عام 2018. ودرس في عدة معاهد عسكرية مثل كلية القيادة والأركان العامة للجيش الأمريكي بقاعدة «فورت ليفينورث» في ولاية كنساس، وحصل على درجة الماجستير في دراسات السلام من معهد كوفي عنان لتسوية الصراعات بجامعة ليبيريا.